هل يمكن فصل ملف المعتقلين السياسيين في مصر عن المسار السياسي؟
يحمل ملف المعتقلين بعداً وحشياً في التعامل معه، يقترب من سلوكيات النظم الهمجية المتخلفة Vandali في القرون الغابرة.
القضية تتراجع سلباً في بعدها الإنساني، في غياب المسار السياسي، ومن العلامات الأحدث على ذلك، قصة وفاة تامر فكري جمال الدين، 50 عاماً، تاجر وإمام وخطيب بمنطقة كرداسة، والمعتقل منذ 2015، والمحكوم بالسجن عشر سنوات في القضية 11 لسنة 2017 جنايات غرب العسكرية، والذي قامت إدارة السجن بنقل جثمانه إلى مشرحة المستشفى وتركه دون إخطار أهله بوفاته، والذين لم يعلموا بها إلا أثناء محاولتهم زيارته ليُفاجئوا بخبر وفاته!!
هذه القصة المأساوية تكررت مع المعتقل صالح بدوي الذي كان مريضاً بالكبد داخل محبسه بسجن وادي النطرون 430 ولم يتم تقديم أي مساعدات علاجية له، ثم تم إيداعه المستشفى الميري، قبل أن تنقطع الصلة تماماً بينه وبين أهله منذ نيسان/ أبريل 2021، والذين فشلوا في التعرف على أي معلومات عن مصيره. قبل أن يُفاجئوا في آب/ أغسطس 2021 أنه توفي منذ عدة أشهر وتم دفنه سراً، ثم اتضح أن قضية إبلاغ أهله بوفاته، وكأنها أمراً روتينياً، تاهت بين مأمور سجن وادي النطرون وقسم شرطة كرداسة.
أضف إلى ذلك التعنت والمعاملة الفجة والحصار والكردون الإجرامي، الذي فرض على رجل الأعمال صفوان ثابت ونجله أثناء حضورهما جنازة زوجته المهندسة بهيرة الشاوي، ومنعهم من مجرد الاقتراب من أسرتهم المكلومة. هؤلاء ـ للتذكير ـ جرى اعتقالهم لرفضهم التنازل عن جزء من أصول شركة جهينة للجيش، وليس في سياق معارضة النظام، أو رفضه !!
هذه الجرائم المخلة بالشرف البعيدة كل البعد عن معاني الإنسانية والتحضر، تطرح أبعاداً في أسس أوضاع حقوق الإنسان في البلاد بعد 9 سنوات من انقلاب 2013، والتي كرست حكم العسكر الذين لا يجيدون الصناعة والزراعة، ولا يحسنون إلا أعمال القتل والترويع، بعد أن أغلقوا منافذ الخلافات الخارجية، وتجاوزوها رغباً ورهباً بالخوف أو التعقل كما فى ملف سد النهضة، لكن يبقى الإصرار على صناعة الأزمات الداخلية، وصب الوقود على الضحايا ليبقى آتون المعركة مشتعلاً..
لماذا التشدد مجدداً؟
1 ـ رغم إنفاق الدولة الأموال الطائلة لتبيض سجلها الأسود في هذه الملف الحرج، تدل الممارسات الواقعية على أن الجانب الدعائي يبقى هو الهدف، بينما جوهر القضية يظل مفقوداً، فالنظام متوحش، لم يشفي غليله بعد من معارضيه الذين أطاحوا به فى ثورة 2011، رغم أن هزيمته كانت معنوية، ولم تجري فى مواجهته أعمال انتقامية تذكر.
2 ـ تعّود منتسبي وزارة الداخلية على القتل والإهمال الطبي المتعمد، ليصبح سلوكاً إجرامياً روتينياً، دون اكتراث بأرواح المعتقلين ولا معاناتهم، ومعاناة أسرهم، رغم مرور سنوات على فتح الجرح واستمرار النزف.
3 ـ يبدو أن ما يجري يرتبط بأوامر عليا، ووعود مستمرة بالحصانة والحماية، تهدف للتخلص من أكبر عدد من المعتقلين، ودفن المزيد من الأموات، واستهلاك الكثير من الوقت، قبل مجرد التفكير فى وقف المعارك التي تدور من طرف واحد.
4 ـ لا زالت الانتقادات الخارجية التي توجه للنظام شكلية، ويواجهها بـحملات البروباغندا البلهاء والابتسامات واللقطات الكاريكاتورية والصفقات فى أصعب الحالات، على اعتقاد أن هذا يكفي حالياً أما مستقبلاً فلكل حادث حديث.
5 ـ استسلام المعارضة وتمزقها وتفتتها وانشغال الإخوان المسلمين، الذين أطيح بهم في انقلاب 2013، وأكثر المتضررين من سنوات القمع، بأزماتهم الداخلية والانقسامات التنظيمية، وكأنهم لا يواجهون أزمة وجودية قد تقضى عليهم نهائياً، ولا تبقى منهم إلا تاريخ وأطلال وذكريات مأساوية.
6 ـ غيبة المجتمع وتشتته وسهولة السيطرة عليه وتوجيهه فيما لا يأتي عليه بخير.
إذن متى قد يُضطر النظام لتقديم تنازلات بشأن المعتقلين؟ أو بصيغة أخرى ماهي النقطة الحرجة التي قد يضطر النظام عندها لتقديم تنازلات بشأن المعتقلين، أو بدء فتح مسار تفاوضي بشأنهم؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، يجب الانتباه إلى أن الكثير من المعتقلين فقدوا إرادة التحدي ولم يجدوا غضاضة في الاستسلام لقبضة الدولة وأبدوا رغبة ملحة ومتكررة في المراجعات مقابل الخروج من السجون، على غرار المراجعات الفكرية التي أنهت جزءا كبير من أزمة السجون في التسعينيات، والتي قادها اللواء أحمد رأفت.
لكن هذا التنازل لم يقابله ـ حالياً ـ إلا المزيد من التشدد، فالنظام لا يرغب في حلحلة هذا الملف ويرغب فى إبقائه مفتوحاً، كأداة من أدوات السيطرة المطلقة، والمساومة والضغط على معارضيه في الداخل والخارج، وقد نجح في ذلك إلى حد بعيد، إذ اشترى صمت العديد من كبار معارضيه بالخارج، باعتقال واحتجاز رهائن من أسرهم.. لذا لم يتوقف لحظة عن جمع معلومات عن الفارين إلى الخارج وربطهم معلوماتياً بالداخل.
كما تقوم فلسفة النظام العسكري على أن قوة الدولة الوطنية وكفاءتها ترتبط بقدرتها على السيطرة التامة على مواطنيها وضبط أفكارهم والتحكم في سلوكياتهم وحتى ردات أفعالهم. وهذا الملف جزء من أدوات تلك السيطرة. حتى أن عدداً كبيراً من المعتقلين ممن خرجوا فى إطار مبادرات العفو الرئاسي منذ سنوات، جٌمعوا فى العقرب 2 على مدار أسابيع تعرضوا خلالها للقهر تحت مسمى إعادة التأهيل، وظهر بعضهم مستسلماً أمام الكاميرات عند باب السجن ليشيد بالرئيس والدولة قبل أن يلتقي بأهله، ويخرج إلى حرية مصطنعة بالتراضي، واستعباد شبه كامل، فرضه الطرف الأقوى على أسيره العاري من أي دعم مجتمعي.
ربما المرات الوحيدة التي تجاوب فيها النظام مع مبادرات الإفراج عن المعتقلين، كانت بضغط خارجي قوي وملزم لكن فى حالات فردية، فيما يرزح عشرات الآلاف من المعتقلين في السجون في ظروف بالغة القسوة، ومستمرة لسنوات طويلة.
إذن التحرك الفعال في هذا الملف يتطلب أولاً ضغوطاً سياسية رسمية ولوبيات خارجية، في سياقات متزامنة ومتناغمة، أمام تزايد قدرات النظام في المناورة واللعب على وتر المصالح مع الغرب والداعم الإقليمي.
وقد وقفت في المقال الأول من هذه السلسلة على شرح أهمية عامل الضغط الخارجي من الجهات السياسية الغربية سواء كانت حكومات أو برلمانات أو مجتمع مدني تحت وقع ضغوط المنظمات الحقوقية المصرية المستقلة الفعالة أو الدولية كسبيل وطريق وحيد حالياً.
أما السياق الثاني فهو إحياء الرغبة المجتمعية في استنقاذ المعتقلين.
مسار تفاوضي أهلي !!
فى غياب الرؤية السياسية للطرف الأضعف، وإدمان النظام للديكتاتورية والقمع، باتت الحلول الأهلية والفردية هي الأدوات المتاحة لحلحلة ملفات الاعتقال لذوي النشطاء الأكثر شهرة وجرأة، وسبق أن أشرنا إلى الأخبار المتعلقة بمساومات اليوتيوبر عبد الله الشريف مع النظام للإفراج عن والده مقابل توقفه عن نشر تسريبات تسيء إلى النظام وتفضحه.
وتوسعت مساومات الشريف لاحقاً في صمت لتشمل الإفراج عن الكثير من السيدات والفتيات، بحسب قوله.
نفس الخطوة اتخذها الناشط علي حسين مهدي للرد على استمرار اعتقال والده، وتحويله إلى نيابة أمن الدولة العليا، حيث تعهد بالتوقف عن نشر أي تسريبات جديدة ضد النظام وعدم الإساءة للرئيس عبد الفتاح السيسي أو أي من مؤسساته، ووقف جميع أنشطته الحقوقية داخل الولايات المتحدة والتوقف عن التواصل مع أي صحفي أو صحيفة أجنبية، مقابل الإفراج عن والده.
علماً أن مهدي هو المسؤول عن نشر تسريبات انتهاكات الداخلية في قسم شرطة السلام في الغارديان البريطانية.
لكن يظل التحدي في الأسر التي لا تملك وسائل ضغط كيف ستنقذ أسراها الذين انقطعت بهم السبل فى كهوف النظام بلا أي مساندة أو دعم داخلي أو خارجي؟!!
حينما كانت المعارضة للنظام خارج السجون متماسكة، كان لهؤلاء اليد الطولى داخلها، وكانوا يفرضون شروطهم، ويحصلون على الامتيازات بقوة ساعدهم، ثم انهار الجميع لاحقاً على إثر انهيار الإخوان ـ كتنظيم ـ وتشرذمهم وتشتتهم وتفتتهم شيعاً.
من المسلمات أن أي أنظمة ديكتاتورية مستبدة أو انقلابية، لا تعرف إلا معنى القوة كفلسفة وقيم عسكرية وتنشئة ثكنات متوارثة. وبالتالي فالنظام لن يعمل على فتح أي مسار تفاوضي بخصوص ملف المعتقلين إلا حينما يجبره الطرف الآخر على البدء بفتح مسارات للتفاوض.
الطرف الآخر هنا مجموعة أطراف مشتتة بالأحرى، بين كثير منهم ما صنع الحداد، بعضهم يحتاج إلى أن يعود للحياة التي فقدها تحت تأثير الضغط المتواصل، كما يحتاجون جميعاً إلى التحفيز والتنسيق فيما بينهم من أجل الوصول إلى الهدف المرجو.
القوى الضاغطة
1 ـ المعتقلون:
بحسب إحصائيات فى السجون، تبلغ نسبة معتقلي الإخوان 40% من عدد المعتقلين، ويتوزع الباقون على أحزاب وجماعات سياسية، وتيارات، ومستقلون. تعايش هؤلاء جميعاً في السجون قرابة العقد، عاشوا التقارب والتلاحم، خلال فترات ما، والأزمات والمشاحنات والصدامات خلال فترات أخرى، وتقلب بعضهم من اليسار لليمين والعكس، واندرج بعضهم في تيارات العنف، ثم تراجع .
حينما كانت المعارضة للنظام خارج السجون متماسكة، كان لهؤلاء اليد الطولى داخلها، وكانوا يفرضون شروطهم، ويحصلون على الامتيازات بقوة ساعدهم، ثم انهار الجميع لاحقاً على إثر انهيار الإخوان ـ كتنظيم ـ وتشرذمهم وتشتتهم وتفتتهم شيعاً.
لكن فى النهاية لا قضية يمكن أن تجمع هؤلاء جميعاً إلا الحرية، وهم وحدهم يملكون الأدوات التي يمكن أن تخفف الضغوط عليهم، والوسائل التي تجبر النظام عن حلحلة قضيتهم، وإن كان الأمر ليس سهلاً.
2 ـ روابط أهالي المعتقلين.
3 ـ المنظمات الحقوقية النشطة والفاعلة.
فصل السياسي عن الحقوقي
كنا ضمن أصوات كثيرة طالبت جماعة الاخوان المسلمين أو فصائل الإسلام السياسي، بفصل الدعوي عن السياسي، الآن نكرر دعوتهم لفصل السياسي عن الحقوقي، فكل القضايا التي رفعها الإخوان أمام المحافل الدولية باسم حزب الحرية والعدالة ـ غير الموجود واقعياً ـ انتهت بالفشل، لعدم وجود رؤية أو استراتيجية واضحة للعمل، وتورط العديد من الشخصيات والجهات فى مزاعم "ملاحقة مجرمي الانقلاب"، من أجل كسب "التمويل" من الجماعة أو من المقربين منها وفقط .
من هذا المنطلق يمكن أن تعمل الجماعة، على ملف المعتقلين من خلال دعم روابط الأهالي أو المنظمات الحقوقية ومجموعات المحامين الذين يقدمون المساعدة القانونية.
فى النهاية لا يمكن أن تبقى إشكالية السجون بمخزونها الضخم بلا حل . يقول غاندي: "السلام هو أقوى سلاح للبشرية" و"عندما ينتابني اليأس، أتذكر أن طريقَ الحقيقة والحب قد انتصرا طوال التاريخ، كان هناك طغاة وقتلة ولفترة من الزمن بدا أنهم لا يُقهرون، لكنهم في النهاية يسقطون دائما ـ تذكّر هذا الأمر دائمًا".
ربما هذه هي رسالتي للأسرى وأسرهم والمجرمين وأسرهم أيضاً..
إقرأ أيضا: أسئلة محورية حول أوضاع المعتقلين السياسيين في مصر (1)
استقالة أطباء مصر كارثة سببها تدني الإنفاق الصحي الحكومي