ملف المحامين ما له وما عليه
من الموضوعات الشائكة التي ترتبط ارتباطاً جازماً
بملف المعتقلين السياسيين في مصر وأكثر حساسية، ملف المحامين.
يمثل ملف المحامين أهمية قصوى للأهالي والنظام كل على حدة، فالمحامي هو الرئة التي يتنفس بها ذوو المعتقل، وفي أحيان كثيرة يصبح هو
المرآة التي تنقل لهم أحواله، وهيئته ونبضاته وشكواه وأحلامه وآلامه، حينما يصبح
الفشل في رؤيته من المسلمات، فيما يرتكز عليه النظام في استكمال خلفية المشهد.
وجود محام لازم من لوازم ديكورات وبروباجندا
العدالة المفقودة في حقبة حكم العسكر المروعة منزوعة الإنسانية، العارية بشكل
مباشر من أي وازع أخلاقي أو قيمي. تخيل أنه رغم هزلية القضايا والتهم والادعاءات
ومحاضر الضبط ومخالفات الإخفاء القسري والانتهاكات والتعذيب والنيابة والقضاء لا بد
من وجود محام، وكأنه الدليل الوحيد على وجود عدالة.
النظام دائماً يتمسك بالشكليات كالسيارات التي
كانت تطوف ميدان رابعة العدوية صباح يوم الفض في 14 آب/ أغسطس 2013، لتؤكد أن الفض
يتم بإشراف النيابة العامة، فيما كانت تنقل الكاميرات مشاهد واحدة من أكثر المجازر
بشاعة في التاريخ المصري.
أتذكر أنه في بدايات عملي بالمحاماة سمعت لأول مرة
مصطلح القضاء الواقف من الأستاذ مختار نوح، الذي كنت أتدرب في مكتبه وقتها، إشارة
إلى دور المحامين في العمل على استكمال العدالة وأن دورهم لا يقل عن القضاء
والنيابة، فالأدوار الثلاثة تكمل بعضها، ولا يمكن أن تتم العدالة أو تستكمل مراحل
التقاضي في غياب أحدها.
لكن في كل الأحوال كما قال أحد كبار ضباط أمن
الدولة: "كل متهم سياسي يدخل القاعة ومعه حكمه والقاضي ما عليه سوى أن يقرأ
الحكم".. المحامي أحد لوازم المشهد الختامي، كما المرافعات والإجراءات وسماع
الشهود.
في أحيان كثيرة يزدري الضباط القضاة، ويعتبرونهم
أدوات دنيئة في أيديهم من أجل تطبيق أحكام قطعية سريعة وناجزة بحق مناهضيهم، لا
تختلف عن التصفيات الجسدية الميدانية السريعة، بعيداً عن القضاء، كما نقول، وكأن
القضاء يمكن أن يوفر لأحد الحد الأدنى من متطلبات العدالة منذ انقلاب 2013، والذي
شارك فيه بقوة، بعد أن هددت مرحلة ما بعد الثورة مكتسبات القضاة الممثلة في
التوريث وما يعتبرونه زحفا مقدسا لأبنائهم وأحفادهم -فقط- نحو مقاعدهم، وكأنها
عورة لا يجوز أن تنكشف على من سواهم من خريجي نفس الكليات، وكذا الجمع بين الوظائف،
وتعدد مصادر الدخل والرواتب. لكن في أحيان قليلة يتعرضون للمحامين ولو كانوا غير
راضين عن أدائهم.
هذا على المستوى الشكلي، على مستوى المضمون، عمل
النظام على ألا يتعدى دور المحامي حضور الجلسات واستكمال الشكل القانوني
الروتيني لعملية التقاضي، عبر الدور المرسوم، وقام بتحجيم كل ما عدا ذلك.
أشرت في مقالي السابق، وهو الثالث في هذه السلسلة،
إلى أنه لم يتبق لعشرات الآلاف من المعتقلين سوى روابط الأسر والأهالي، وطالبت
بتقديم كل أشكال الدعم، لإعادة إحياء عملهم واستعادة أدوارهم، في المحاربة من أجل
حرية ذويهم. ملف المحامين يرتبط بذلك ارتباطاً وثيقاً، فالمحامي -خاصة من لديه خلفية قانونية قوية ودراية بالعمل في المحاكم والنيابات- بالنسبة للأهالي ومن
خلفهم المعتقلين، خط الدفاع الأول، ومصدر طمأنينة وإلهام.
ومن الجدير بالذكر أن لجان الدفاع عن المعتقلين
تعود إلى جبهة الدفاع عن متظاهري مصر، التي ظهرت مع ثورة 25
يناير، وقد تعرض الأرشيف الخاص بتلك اللجنة للحذف من على الإنترنت عدا الصفحة
الخاصة بفيسبوك.
إلا أنني أستطيع أن أقول إنها ظهرت كمجهود مشترك
لعدد من المنظمات الحقوقية المستقلة بغرض تقديم المساعدة القانونية للمتظاهرين
المعتقلين إبان الثورة، وكانت تعمل على قضايا غير الإسلاميين بشكل كبير.
أما ما يخص الإسلاميين المعتقلين فيمكنني القول
كذلك، إنه تم العمل على تكوين مثل هذا النمط من اللجان على خلفية الأحداث السياسية
التي تلت الانقلاب العسكري، على الرغم من وجود ما يسمى لجان المحامين في المحافظات
المختلفة والتي تتبع جماعة الإخوان وكانت تنشط منذ عهد مبارك، وكان عملها ينصب على
تقديم الدعم القانوني لأعضاء الجماعة المعتقلين في الأحداث المختلفة، ومنها أحداث
تظاهرات القضاة عام 2005 على سبيل المثال. وقد عادت للعمل بنفس الكيفية بعد 2013
مع نفس الفئة (الإسلاميين) ومعارضي الانقلاب العسكري التابعين لما كان يعرف بائتلاف
دعم الشرعية.
استمرت لجان المحامين الإخوان في العمل بنفس
الكيفية المنغلقة، التي تعودوا عليها على الدوام، فيما استمرت جبهة الدفاع عن
متظاهري مصر في عملها، خصوصا مع بدايات 2014، حينما اتسعت رقعة الاعتقالات لتطال
الجميع. وفي 2017 توقف الجميع عن العمل، على وقع ضربات النظام ضد اللجان القانونية
للإخوان وائتلاف دعم الشرعية، وكذلك ضد المنظمات الحقوقية المستقلة التي كانت تدعم
أنشطة جبهة الدفاع عن متظاهري مصر.
منذ 2015 بدأت أعداد من المحامين غير المنتمين
للجماعة تعرض المساندة والمساعدة والدعم وتقديم الخدمات القانونية بمقابل مادي
كبير، تحت مبرر خطورة العمل على مثل هذا النوع من القضايا، وطمعاً في الربح والتكسب،
مما أثقل كاهل الأهالي بمزيد من المعاناة..
العديد من أهالي المعتقلين المنتمين إلى الإخوان
تواصلوا بشكل مباشر مع هؤلاء، الذين كانت لديهم جرأة في المرافعات وشجاعة، لكنهم في
سبيل الشهرة وصناعة اسم بين أهالي المعتقلين، تسببوا في العديد من الأزمات. أحد المتهمين
الذي سجن لسنوات، رغم حصوله على البراءة في أول درجات التقاضي، قال له القاضي: لقد
أخذت حقك في المرافعة، ومتهم آخر حصل على مؤبد، بعد مرافعة من نفس المحامي، كانت
تهدف للبروباجندا أيضاً أكثر من مصلحة موكله.
قال لي شاهد عيان إنه شاهد محاميا من الخارج يحاسب
إحدى لجان المحامين أمام قاعة المحاكمة، وهم ينتظرون قرارات الاستئناف، ويطلب حصته
بابتذال!!
لم تعد القضية في معظم الأحوال المعتقلين الذين
قضوا سنوات طويلة رهن الحبس، الشهرة والمال هما الهدف. الكثير شكوا من أن عددا لا
بأس به من المحامين الإخوان أيضاً، بدأوا يتغيرون وبدأت نظرات التعاطف تغيب رويدا رويدا،
وبات التعامل العقلاني الجامد يحكم العلاقات بين المحامي وموكله.
على الجانب الآخر، أدركت الأجهزة الأمنية أهمية
دور لجان المحامين في تنظيم الإخوان وبدأت في القيام بأعمال انتقامية ضدهم، منها:
- التهديد المباشر
بالاعتقال إذا أثاروا قضايا التعذيب والإخفاء القسري أمام المحاكم أو أثناء
المرافعات.
- منعهم من مباشرة
أعمالهم القانونية في الدفاع، ومن زيارة موكليهم.
- نشر ثقافة الخوف لدى
الأهالي تجاه المحامين التابعين للجماعة والإيحاء بأنهم السبب الرئيسي في استمرار
الاعتقال.
- الاعتقال ووضعهم على
قوائم القضايا، وأبرزهم مجموعة المحامية هدى عبد المنعم، والمحامي عزت غنيم.
تلك الأسباب أدت إلى تراجع وتقليص أعداد اللجان
القانونية التابعة للجماعة وتسببت في ظهور العديد من المشكلات في أداء وعمل تلك
اللجان، أهمها:
- ضعف الدعم القانوني
المقدم في العديد من القضايا، ما أدى إلى رفض عدد من مذكرات النقض شكلا، وهو الأمر
الذي تسبب في تثبيت الأحكام بحق المعتقلين.
- الاستسلام للترهيب
الأمني وعدم تسليط الضوء على جرائم انتهاكات حقوق الإنسان بحق المعتقلين في العديد
من القضايا خوفا من الانتقام.
- وقوعهم تحت ضغط أهالي
وذوي المعتقلين واهتمامهم بالأعمال الإدارية عن أعمال الدفاع القانوني.
- إهمال النقض في القضايا
التي أنهى فيها المتهمون مدة حبسهم، لتصبح الأحكام نهائية!!
في المقابل، استطاع العديد من مكاتب المحاماة
المستقلة الاستمرار في تقديم الدعم القانوني المباشر للعديد من حالات الاعتقال،
إلا أن تلك الحالة لم تخلُ من العديد من المشاكل، أهمها:
- التسابق على الحضور مع
الشخصيات العامة من المعارضة المدنية والبحث عن الظهور الإعلامي وعلى منصات
السوشيال ميديا.
- ضعف التكوين الحقوقي
بسبب توقف أنشطة التدريب للمنظمات الحقوقية لفترة طويلة بسبب الضربات الأمنية.
- مطالبة أسر وأهالي
المعتقلين بتقديم مبالغ مالية لأعمال الدعم القانوني والتي كانت في السابق تقدم
بشكل مجاني.
- تجنب الدعم القانوني لـ"الإسلاميين"
خوفا من البطش الأمني.
- التسابق في نشر إفراجات
لجان العفو، والاتصال بذوي المفرج عنهم -في بعض الحالات- وتحصيل مبالغ مالية.
- مارس بعض هؤلاء ضغوطاً
غير مباشرة على مئات الأسر لحثها على الصمت وعدم تقديم بلاغات أو شكاوى إعلامية،
خاصة في حالات الإخفاء القسري والتدوير، بزعم أن ذلك أسلم لظهور المختفين، وخروج
المعتقلين!!
وأخيراً يمكنني القول إن ثبات مستوى الاعتقالات
والذي لم يتوقف على مدار عقد كامل، تسبب في العديد من المشكلات في هذا الملف، لذا
يصبح من عدم الإنصاف، توجيه النقد دون استشعار الضغوط النفسية والأزمات الحياتية
للمحامين، ومن بينها البقاء لسنوات في مستنقع ودوائر روايات الاعتقال والتعذيب
ومعاناة الأسر، وظلم القضاة، وكذا ضغوط رجال الشرطة.
في المقابل لم تكن إدارة الإخوان المسلمين لهذا
الملف الحيوي والهام منذ 2017 -رغم امتلاكهم التنظيم والأسس والأدوات والمال- مرضية بحال، لقد أضاعت الجماعة في مرحلة بياتها الشتوي المطول منذ ذلك الحين
العديد من الفرص لتفعيل هذا الملف، ما أثر على المعتقلين وذويهم..
نفس الكلام ينسحب على المنظمات الحقوقية، التي يجب عليها العمل على إيجاد روافد جيل جديد من المحامين الحقوقيين المؤهلين، حيث بات العدد المتاح لا
يتناسب مع كم الانتهاكات، الأمر الذي ظهر جلياً في اعتقالات أيلول/ سبتمبر 2019، فقد
كان عدد المعتقلين كبيراً، لدرجة أنهم لم يجدوا من يقدم لهم الدعم القانوني.
لا بد من استثمار الوقت والجهد، لإعداد أجيال
جديدة من المحامين، ليحملوا ملف حقوق الإنسان بتبعاته، ويبرعُوا في تقديم الدعم
والمساعدة القانونية.