اللافت في
القرآن أن الإنسان مجرَّداً ذكر غالباً في سياق الذمِّ:
- "إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ".
- "خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ
مُبِينٌ".
- "وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ
الْإِنْسَانُ عَجُولاً".
- "وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُوراً".
- "وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً".
"وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً".
- "إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً".
"لَا يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ
الشَّرُّ فَيَؤوسٌ قَنُوطٌ".
- "إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً".
- "كَلاّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى".
فالقرآن لا يتحدث عن إنسان طيب وإنسان مؤمن، إنما يتحدث عن نفس مؤمنة ونفس
طيبة؛ ربما لأن الإنسانية هي قابلية للارتقاء أو للانحدار، وفي حالتها الخام
غالباً ما تكون مذمومةً: "إن الإنسان لفي خسر". وحين ينتصر الإنسان على
إنسانياته فيتحرر من هذه الصفات الذميمة يمدحه القرآن دون أن يسميه إنساناً بل
يسميه عبداً لله، أو يستعمل أداة الوصل مباشرةً فلا يقول الناس الذين آمنوا بل
يقول الذين آمنوا فقط، ولا يقول الناس الأبرار، بل الأبرار فقط، ولا يقول الناس
الصالحون بل عباد صالحون: "نعم العبد إنه أواب"، "يا أيها الذين
آمنوا"، "وقليل من عبادي الشكور"..
لماذا لا يذكر القرآن صفة الإنسانية حين يسمو الإنسان ويستبدل بها صفات
العبودية أو أفعال
الإيمان والتقوى والصلاح مباشرةً؟ هذه دعوة لأن يتجاوز الإنسان
إنسانيته وتسمو روحه ليكون عبداً خالصاً لله: "سبحان الذي أسرى بعبده".
فالإنسانية هي التصاق برغائب النفس وطين الأرض، والمؤمنون بعد رحلة المجاهدة
والمكابدة والتزكية يتجاوزون إنسانيتهم إلى سماء الروح الشفافة المجردة..
أورد شيئاً من هذا المعنى العالِم المتصوِّف الشهير جلال الدين الرومي في
قصيدةٍ قال فيها:
وتشكَّلت كل أسرار وجودي في صورة أظهرتها للعيان..
فإذا أنا إنسان..
ثم صار هدفي في أن أكون في صورة ملاك..
وراء السحاب.. وراء السماء..
في عوالم لا يتغير فيها أحد ولا يموت.
ثم أمضي بعيدا وراء حدود الليل والنهار.
والحياة والموت..
لكن لماذا كان الإنسان في هيئته المجرَّدة قبل التزكية موضع كلِّ هذا
الذمِّ في القرآن!
يعيننا في الاقتراب من الإجابة القرآن نفسه، حين يتحدث عن لحظةٍ مؤسِّسةٍ
لهذا الكائن إذ قبِل بما لم تقبل به السماوات والأرض والجبال، وهو حمل الأمانة:
"إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ
إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً".
حمل الأمانة يعني أن هذا الكائن دون الكائنات الأخرى قبِلَ في عالم ما قبل
تجسِّدنا الأرضي التجربة، واختار المجادلة على الطاعة، والمغامرة على الطمأنينة
والتسليم، وقد وصف القرآن هذا الفعل بأنه ظلم وجهل، وما دام الإنسان قد اتخذ هذا
القرار فإن عليه أن ينجح في الاختبار بتجاوز سلسلة من الابتلاءات ومجاهدة نفسه
لتزكيتها، فإذا فعل ذلك تاب الله عليه ومنحه الفلاح والسعادة الأبدية.
إنه لم يرض حياةً ساكنةً مثل حياة الجبال والسماوات والأرض: "قالتا
أتينا طائعين"، وهو الخضوع التام لقانون الله في الوجود، فمنح هذا الإنسان
القدرة على الخروج عن القانون، وهو ما يسميه القرآن المعصية: "وعصى آدم ربَّه
فغوى".
ليس عبثاً أن يذكر عصيان آدم في القصة الأولى للبشرية، لأن تلك اللحظة
معبِّرة عن طبيعة هذا الكائن وجدليته.
لكنَّ القبول بحمل الأمانة هو تهوُّر، لذلك يخسر أكثر الناس: "إن
الإنسان لفي خسر".
هذا الدور المنوط بالإنسان على هذه الأرض اقتضى تخفياً من الإله ليترك
هذا الإنسان يخوض تجربته ويتحمل نتائجها، لذلك نرى في قصة آدم أن النداء الإلهي
جاء بعد الأكل من الشجرة المحرمة: "وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ
أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ".
لماذا لم ينادهما ربهما قبل الأكل من الشجرة ويحذرهما من وسوسة الشيطان؟!
لأن هذا الإنسان قد قدّر له باختياره أن يخوض تجربته ويتحمل مسؤوليتها، وهذا
المعنى نفهم به كل أحداث الحياة ويجيب على السؤال الذي يثيره منكرو الدين عادةً:
لماذا لا يتدخل الله لنصرة المظلومين وإهلاك الظالمين؟
إن الله تعالى يتدخل لكنه يترك البشرية تخوض تجربتها، فلو كان تدخل الله
آلياً مباشراً لصار الإنسان مثل الشجرة والجبل لا يملك القدرة على العصيان، ولمَا
تمايز الأبرار عن الفجَّار.
هذا التخفي الإلهي يغري كثيراً من الناس بالنسيان والكفر والفجور والبغي،
ويرسم القرآن صورةً بليغةً لطبيعة هذا الإنسان
الجحودية:
"هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا
كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا
جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ
أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا
أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ".
هذا المشهد التعبيريُّ يتكرر دائماً ودائباً في حياة الناس، وركوب البحر
مثال على لحظات الخطر التي تنقطع فيها حبائل الإنسان الأرضية، فيتذكر المصدر الأول
للخلق والحفظ والأمن والرعاية: "دعوا الله مخلصين له الدين"، لكنه إنسان
سريع النسيان والجحود، فإذا أنجاه الله رجع إلى بغيه!
"أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ
عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ
يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ
فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً".
يتوهم هذا الإنسان أنه في حالة استغناء عن الله بمجرد شعوره بالأمن اللحظي،
وينسى أنه في حاجة دائمة إلى تذكر الخالق الحافظ، وهذا يدل على مدى التصاق الإنسان
بالأوهام والرغائبية بدل العقلانية، لذلك يستفز القرآن فيه العقلانية بتذكيره بأن
احتياجه إلى الله لم ينته بزوال الخطر المؤقت، فالخطر قد يلحق به في البر أو ينزل
عليه من السماء. وتمثيل ذلك في حياتنا أن الإنسان إذا اشتد به المرض أو ضاقت به
سبل العيش دعا الله مخلصاً له الدين فإذا تعافى نسي ما كان يدعو إليه، مع أنه لو
تجرد بعقله لعلِم أن المرض قد يعود إليه في أي لحظة، وأن نعمة العافية التي تغريه
بالتكذيب والجحود قد تسلب منه في طرفة عين.
ومن المعاني الغريبة التي تستفز العقل في القرآن؛ دعاء الإنسان على نفسه
بالشر والهلاك:
- "وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ
الْإِنسَانُ عَجُولاً".
- "وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ".
- "وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ"، "أَفَبِعَذَابِنَا
يَسْتَعْجِلُونَ".
- "وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ
عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ".
- "فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ".
نفهم حرص الإنسان على الخير واستكثاره منه، لكن استجلابه
الشر واستعجاله
يثير الدهشة في هذا الإنسان الأكثر شيءٍ جدلاً!
والإجابة على هذا السؤال أن نفس الإنسان مصممة على الحركة لا على السكون،
ونرى تصديق ذلك في حياتنا في البحث عن المغامرة، فكثيراً ما يحظى أحدهم بعمل مرموق
وأجرة مجزية ثم يترك ذلك ويقامر بحثاً عن التغيير، أو ينعم أحدهم بأسرة محبة هادئة
فيتسلل الضجر إلى نفسه بعد زمن وتتغيَّر أحواله، وهذا ما حدث في قصة سبأ الذين
أنعم الله تعالى عليهم بجنتين ورزق وفير وبلدة طيبة وأسفار آمنة، ولم يطلب منهم
سوى الشكر، لكنهم بطروا حياة النعيم وقالوا "ربنا باعد بين أسفارنا"!
وظلموا أنفسهم.
وذات الميل إلى كفر النعمة نجده في بني إسرائيل حين طلبوا استبدال الذي هو
أدنى بالذي هو خير: "لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا
وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا"، أو في مواقف الأقوام المكذبة من رسلها
حين استعجلوا نزول العذاب، كما فعلت قريش حين دعت أن يمطر الله عليهم حجارةً من
السماء.
وفي هذا المعنى يحكى أن معاوية قال لرجل من أهل اليمن: ما كان أحمق قومك
حين قالوا: "ربنا باعد بين أسفارنا" أما كان جمع الشمل خيراً لهم؟ فقال
اليماني: قومك أحمق منهم، حين قالوا: "الَّلهمَّ إن كان هذا هو الحقّ من
عندك فأمطر علينا حجارةً من السَّماء، أو ائتنا بعذابٍ أليم"، أفلا قالوا:
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه!
إذاً فهي طبيعة إنسانية متكررة أن يملَّ الناس بكفرهم من حالة الاستقرار
والنعيم، فيظلموا أنفسهم باستجلاب التعب والشقاء. وقد تناولت نظرية التحليل النفسي
الكلاسيكية هذا الميل التدميري في النفس البشرية، فسمَّاه فرويد حافز الموت
والتدمير الذاتي، وهو حافز معارض لإرادة الحياة والنشاط في نفس الإنسان، لكن
التجربة أثبتت رسوخه. فقد لاحظ فرويد أن الجنود العائدين من الحرب العالمية الأولى
وتعرضوا لصدمات نفسية فإنهم يميلون إلى إعادة تلك التجارب المؤلمة، وهو ما يتناقض
مع توقعات مبدأ اللذة، ونلاحظ مثل هذا مع الناس الذين تتلبس بهم حالة الحزن
فيميلون إلى البقاء في الحزن.
الاستعجال هو موقف يفتقد إلى التوازن النفسي، وهو الذي يؤدي إلى شقاء
الإنسان وزوال النعمة عنه: "ذلك أن الله لم يكُ مغيِّراً نعمةً أنعمها على
قومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم".
والشكر هو حالة النفس وليس ترديداً باللسان، فالشكور يقدِّر النعمة ولا
يملُّ منها ويستزيد منها: "لئن شكرتم لأزيدنَّكم". الشكر يقابل الكفر في
القرآن، وهو حالة الشعور بالامتنان لكلِّ ما أنعم الله تعالى به علينا، وهو ما
ينشئ نفساً ممتلئةً بالبهجة والرضا والسلام، أما الذي يستعجل قدوم النعمة أو
يستعجل زوالها فهو يعيش في حالة غفلة وسكر وغياب للوعي بالذات، فيكون له ما طلب،
فالله تعالى يعطي الإنسان على قدر استعداده وقابليَّته ودعائه، فإذا انشرحت نفسه
بالرضى زاده الله تعالى رضىً، وإذا ضاقت نفسه وظلمها بالنقمة سلبه الله النعمة:
"اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ".
يتبع..
twitter.com/aburtema