استمعتُ إلى خطاب الرئيس فلاديمير
بوتين، الذي افتتح به العرض العسكري التقليدي، الذي يقام كل عام بمناسبة النصر على
النازية.
الخطاب جاء مخالفا للتمهيد الإعلامي
الغربي الذي سبقه، ولأن الرئيس بوتين رجل مفاجآت بحيث لا تقرأ خطواته مسبقا، فقد
فاجأ العالم بخلو الخطاب من أي قرارات أو حتى إشارات تصعيدية، فقد كان في الشكل
والمضمون خطابا تفسيريا لما حدث، ودفاعيا عمّا فعل، وتعبويا للجمهور الذي لم
يجد بعدُ نهاية لحرب قُدِّر لها أن تُحسم في أيام، فإذا بها تستمر دون نتائج مقنعة
لما يزيد على سبعين يوما.
الشعب الروسي أكثر من يعرف ما لدى
دولته من عسكر وسلاح، وحين يشاهد مباشرة أو على شاشات التلفزيون، القوة التدميرية
الهائلة التي تحملها شاحنات ضخمة، لا يشعر بالثقة ولا بالأمان والاطمئنان؛ لأن
تجربة الاتحاد السوفياتي لا تزال ماثلة في الذاكرة، ولو أن الساحة الحمراء تنطق ما
شهدت منذ أول استعراض نصر جرى على أرضها، لقالت: من هنا حيث ضريح لينين العظيم الذي
صار مَعْلَما سياحيا، وحيث المنصة المرمرية التي وقف عليها قادة نصف العالم.. من هنا بدأت مراسم الصعود ثم الهبوط في فترة زمنية هي طرفة عين بمقياس تواريخ
الحضارات والأمم.
تمتلك روسيا، وكانت قد امتلكت من قبل،
أقوى قوة تدميرية عرفتها البشرية، وامتلكت جيوشا وأساطيلَ وأتباعا وحلفاء وفّروا
لها مكانة وجدارة جعلتها قطبا يقتسم الكون مع القطب الآخر، وكان مجرد ذكر وارسو،
الحلف المواجه للأطلسي، يثير الرعب، وكم من مرة أوقف البشرية على حافة حرب كونية.
هل بغير ذلك خاطب خروتشوف العالم بحذائه من على المنبر الأعلى «الأمم المتحدة»؟
وهل بغير ذلك كان الفيتو السوفياتي يحدد بمجرد التلويح به إيقاع الحياة الدولية
وأزماتها الكبرى؟ وهل بغير ذلك كان الإنذار السوفياتي دون استخدام السلاح رادعا لمنع
حروب وحسم نتائجها.
العرض الضخم الذي جرى في الساحة
الحمراء والحرب المتعثرة في أوكرانيا على أشدها، كان يناسب زمنا آخر غير هذا
الزمن الذي تغيرت فيه المقاييس والقواعد والاعتبارات. هو زمن جرت التضحية فيه ببلد
كبير اسمه أوكرانيا، من أجل استنزاف بلد كبير آخر هو روسيا، ومن أجل ترويض قارة
عريقة هي أوروبا لإطالة أمد خضوعها الأعمى لأجندات أمريكا ونزوات المتصارعين على
عرشها.
أجندات بائسة وموت جماعي حين تقرأه
أجيال قادمة فسوف تراه عبثيا، وكأن العالم لم يكتفِ بالموت الآسيوي والأفريقي
واللاتيني، ولا بملايين المهاجرين من أوطانهم إلى أي مكان بما في ذلك قيعان البحور
والمحيطات.
ألم تكن أوروبا قبلة للمهاجرين، وها هي
بفعل أجندات النفوذ الاستبدادي تصبح أول المرشحين للهجرة، وليست أوكرانيا هي
الأخيرة في هذه السلسلة؟
الفلسطينيون تخصيصا وغالبية عظمى من
العرب يحبون روسيا ويتألمون من كل جرح يصيبها، وهي الجريحة دائما، يحبون مكسيم
غوركي وتولستوي وبوشكين وتشيخوف وليرمنتوف، وينبهرون بالبولشوي والصدارة الدائمة
في الأولمبياد الصيفي والشتوي، ويحبون تعاطف الشعب الروسي ودولته مع العدالة
الخالصة التي تجسدها القضية الفلسطينية، ويحبّون رؤية العلم الفلسطيني وهو يخفق
على سطح سفارة دولة فلسطين في موسكو.
العرض العسكري الضخم الذي شوهد في
الساحة الحمراء هو استعارة من زمن انقضى لزمن مختلف، أما الخطاب الهادئ الذي
سمعناه من قائد روسيا، فكان أفضل ما فيه أنه أوجد أبوابا، وإن مواربة، للخروج من
دوامة الحرب بكل جبهاتها وامتداداتها، فلا فائدة لأحد من قتل روسيا، وعلى من يتطلع
لذلك أو يسعى إليه، أن يستذكر حقيقة أن مصائر الشعوب والدول متشابهة، وهل أمريكا
بحاجة لمن يذكّرها بالمشهد الفيتنامي البعيد والمشهد الأفغاني القريب؟
ليس بوتين ولا جنرالاته ولا شعب روسيا
متعدد الأعراق والأصول والمعتقدات من لن يسمح بهزيمة روسيا، بل ينبغي أن تتضافر
البشرية كلها مع هذا الهدف، أما المطلوب من الرئيس بوتين، فهو أن يكون أكثر
تعاونا في أمر إنهاء الحرب.. كيف؟
أهل روسيا أدرى بما ينبغي أن يعمل دون
أن ننتظر من أمريكا شيئا في هذا الاتجاه.