تصيب أهالي المدن المقدسة بركة المكان وتترك عليهم آثارها. ففي المدينة المنورة تسري البركة في كل أرجائها بعد أن دعا لهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، الأمر نفسه ينطبق على مدينة القدس والتي قرر القرآن الكريم بركتها وما حولها في سورة الإسراء. ولأن هناك شبه إجماع على الشعور ببركة المكان لكل من زار القدس بل وحتى من أكل من طعامها خاصة كعك القدس الشهير، فإنه ليس من المستغرب أن تمتد هذه البركة لأهلها المرابطين. ولم تكن مسيرة الصحفية الشهيدة شيرين أبو عاقلة سوى امتداد لهذه البركة التي تطال الحجر والشجر والبشر.
اسم شيرين على وزن فلسطين وجنين، ولم يكن ارتباط أخبار القدس على مدار ربع قرن مع شيرين هو الرابط الوحيد، بل كانت صرخاتها المكتومة في ثنايا الأخبار تنضح بمعاناة أهالي هذه المدينة المقدسة. وأزعم أن أي مراسل غير مقدسي لم يكن ليحمل صوته وعمله كل هذا التأثير في المشاهدين، فليست النائحة كالثكلى.
وأذكر أن أحد أساتذة الإعلام ونحن نشاهد تقريرا لشيرين قبل سنوات، قال لي إن صوتها الهادئ يحمل كل نبرات الصدق التي تجعلك تصدق وتتفاعل مع كل ما تقوله. وهذه ليست مقاييس علمية مهنية لنحكم بها على أدائها المهني المتميز، ولكنها بُعد آخر يتجلى في شهادة الجمهور العريض من المحيط إلى الخليج، وتعبير عن البركة التي تصاحب أهالي المدينة أينما حلوا وفعلوا.
عرفت شيرين أثناء عملي بقناة الجزيرة قبل سنوات والتقينا مرة واحدة خارج فلسطين المحتلة، مثل اللقاءات التي جمعتني مع الزميل القدير وليد العمري والزميلة العزيزة جيفارا البديري. وكانت لقاءات مفعمة بالود بعد سنوات من التواصل الهاتفي والمكتوب لأغراض العمل. وأشهد شهادة حق أنهم وكل العاملين في مكتب فلسطين المحتلة من أكفأ الصحفيين مهنية وأكثرهم خلقا وتفانيا ووطنية. لهذا شعرت كما شعر الزملاء الذين يعرفون شيرين عن قرب أن الطعنة الإسرائيلية هذه المرة نفذت إلى القلب، ولأول مرة يصيب رصاص المحتل شخصا عزيزا علي من دون مقدمات أو أسباب أو مبررات.
يمكن أن نتحدث كثيرا عن التأثير السياسي والنضالي لجنازة شيرين التي شقت فلسطين من جنين إلى القدس مرورا برام الله، والتي تجاوزت في حجمها جنازة المرحومين فيصل الحسيني وياسر عرفات. لكن لا يمكن أن نتجاوز التأثير العاطفي والثقافي والديني لاغتيال شيرين بمثل هذه الطريقة؛ فلأول مرة تدق كنائس القدس في وقت واحد، ولا لطريقة التعاطف والتضامن التي وحدت الشعب الفلسطيني، بل العرب جميعا في هذه اللحظات، وهي إحدى بركات القدس وأهلها.
والحديث عن الكنائس هنا أو ديانة شيرين المسيحية ليس تقسيما دينيا للقضية الفلسطينية العادلة، ولكن لتوضيح الخصوصية الدينية المتميزة لأهل القدس وفلسطين. فرغم أن ظروف الاحتلال عادة ما تفرز فتنا طائفية وعنفا أهليا، إلا أن التاريخ الفلسطيني يشهد أن الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين صمدت ولا تزال صامدة أمام كل مغريات الانقسام. فالفلسطينيون يمكن أن ينقسموا، بل ويتصارعوا، سياسيا إلا أنهم أبدا لا ينقسمون أو يتصارعون دينيا. وربما مرد ذلك لسر هذه البركة، فمسيحيو القدس بيدهم عهد أمان من أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب شخصيا. وقد لا يعلم كثيرون أن مفاتيح كنيسة القيامة نفسها، وهي من أهم الأماكن لدى المسيحيين في العالم، تحتفظ به عائلتان مسلمتان حتى الآن، هما عائلة جودة وعائلة نسيبة. وهذا يعني أن الكنيسة لا تفتح ولا تغلق يوميا سوى بحضور أي من أفراد هاتين العائلتين. وقد حفظت هاتان العائلتان الأمانة على مدار قرون، وسلم لهما المسيحيون بهذا الأمر كما سلم العرب والمسلمون تغطية أحداث القدس لصوت شيرين أبو عاقلة التي أدت الأمانة وسقطت دونها، فسلام عليها وسلام على القدس وأهلها.
twitter.com/hanybeshr
اغتيال شيرين أبو عاقلة إذ يكشف طبيعة الاحتلال
لماذا تركتم فارسة الحقيقة وحيدة؟
شيرين أبو عاقلة.. صوت الحقيقة الراحل