كان واضحا منذ الخامس والعشرين من تموز/ يوليو الماضي أنّ الرئيس التونسي لا ينوي إدارة "حالة الاستثناء" بالصيغة التي يحددها الفصل الثمانون من الدستور التونسي، كما كان واضحا أنّ تمرير "التأويل" الرئاسي لذلك الفصل وفرضه على باقي الفاعلين الجماعيين لا يرتبط بقوة الرئيس؛ بقدر ارتباطه بضعف خصومه وفقدانهم للدعم الشعبي نتيجة عوامل كنا قد أفضنا القول فيها طيّ مقالات سابقة، وكذلك بغياب أية جهة تحكيمية (محكمة دستورية) يستطيع خصومه أن يطعنوا أمامها في إجراءاته.
ولم يكن المتضررون من 25 تموز/ يوليو قادرين على تَونسة السيناريو التركي (أي إفشال الإجراءات بالتحرك الشعبي)، ولكنّنا كنا واثقين من أن الرئيس ذاته لن يكون قادرا على تَونسة السيناريو المصري (منطق الاستئصال).
بناء على ما تقدم، تحدثنا منذ يوم 26 تموز/ يوليو عن "الاستحالة المزدوجة" (أي استحالة إعادة إنتاج السناريو التركي أو المصري في تونس)، وهو ما يعني أننا سنكون أمام سيناريو ثالث يحكمه -في المستوى الداخلي- المرسومُ 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر ٢٠٢١، وما واجهه من مقاومة خصوم "الانقلاب" المبدئيين مع من انضم إليهم من "أنصار الإجراءات" بعد تيقنهم من تحوّل حالة الاستثناء إلى "مرحلة انتقالية" تؤسس لجمهورية ثالثة، وهي جمهورية تقوم على أنقاض الديمقراطية التمثيلية وتنفي الحاجة لأجسامها الوسيطة. ولكن بحكم فقدان تونس لمقومات السيادة وهشاشة انتقالها الديمقراطي، فإن وضعها لن يكون محكوما باستراتيجيات الفاعلين المحليين؛ بقدر ما سيكون مشروطا بمشروع "الربيع العربي2" وما يستدعيه الصراع بين الغرب والمحور الصيني الروسي، وكذلك "مشروع القرن الأمريكي الجديد" (PNAC) من إعادة هندسة للمشهد الإقليمي.
لو نظرنا إلى محصول الرئيس التونسي بعيدا عن ادعاءاته الذاتية وانطلاقا من وعوده التي حاول أن يؤسس بها لشرعيته بعد 25 تموز/ يوليو، فإننا سنجد أنه قد فشل في تحقيق انتظارات أنصاره قبل خصومه. فالرئيس قيس سعيد قد بنى سردية "تصحيح المسار" على مقاومة الفساد واسترداد أموال الشعب المنهوبة وتحسين المستوى المعيشي لعموم المواطنين. وإذا ما سلّمنا له -جدلا أو اعتباطا- بأنه كان محتاجا إلى تجميع السلطات لتحقيق تلك المطالب، فإن المنجز الرئاسي يبدو عاجزا عن تبرير الانفراد بالسلطة، كما لا يوجد في "الديمقراطية المباشرة" ما يحملنا على انتظار نتائج مختلفة عن النتائج الحالية.
ولن يستطيع التعلل بوجود "غرف مظلمة" تعمل على إفشال "الإصلاح"، أو تبرير تردي الأوضاع الاقتصادية بسبب تداعيات كورونا أو الحرب الأوكرانية أن يجيبا عن الأسئلة التالية التي تشغل الرأي العام: لماذا لم يواجه الرئيس لوبيات الفساد الإداري والنقابي والمالي والجهوي (أي النواة الصلبة لمنظومة الفساد)، وحصرَ "حروبه" في خصومه السياسيين دون غيرهم؟ هل يمكن للمشاريع الأهلية أن تكون مخرجا من الأزمة الاقتصادية الخانقة، وهل يكفي "الصلح الجبائي" مع الفاسدين للخروج من المنوال التنموي الفاشل؟ ماذا فعلت لجنة استرجاع الأموال المنهوبة التي شكّلها الرئيس إلى حد هذه اللحظة؟ كيف ينوي الرئيس تحسين الوضع الاقتصادي لعموم الشعب؛ والحال أن كل الإجراءات (وآخرها الرفع في الفائدة المديرية) تتحرك ضمن منطق ضريبي يستهدف الأجراء والفئات الهشة دون الفئات المحظوظة أو اللوبيات الناهبة للاقتصاد الوطني؟
رغم العداوة التي أظهرها الرئيس لحركة النهضة، فإن منطق التبرير لديه يكاد أن يكون إعادة إنتاج لمنطق تلك الحركة. فقد حاولت حركة النهضة منذ أشغال "المجلس التأسيسي" أن تحافظ على "امتيازات السلطة وشرف المعارضة"، أي أن تسوّق لنفسها باعتبارها حاكما لا يحكم. وقد اعتمدت النهضة هذه الاستراتيجية لتبرير توافقها مع ورثة المنظومة القديمة بمنطق تلك المنظومة وشروطها، مع ما عناه ذلك من انقلاب على استحقاقات الثورة وفشل للعدالة الانتقالية وغيرها من الملفات الوطنية.
أما الرئيس، فرغم استحواذه على كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، فإنه لا يزال يبرر فشله بالغرف المظلمة، ولا يزال يطلب شرف معارضة سياسات الحكومة التي اختار هو نفسه رئيستها وسائر أعضائها. وآية ذلك أن الرئيس غير راض عن الميزانية وما انبنت عليه من نظام ضريبي مرهق للفئات الشعبية، وهو أيضا حريص على الدور الاجتماعي للدولة في الوقت الذي تسارع فيه حكومته لطمأنة الجهات المانحة (خاصة صندوق النقد الدولي) عبر جملة من الإجراءات اللا شعبية (رفع أسعار المحروقات، رفع الفائدة المديرية، القبول بمبدأ التفويت في المنشآت الوطنية وتقليص المصاريف العمومية.. الخ).
بعد أن نجح الرئيس إلى حد هذه اللحظة في اختزال القرار السياسي/ السيادي في شخصه، وبعد أن جمع بين يديه كل السلطات وطرح نفسه "سلطة تأسيسية" للجمهورية الثالثة، يبدو أن نجاح "خارطة الطريق" التي وضعها تحتاج إلى فتح جبهات حروب جديدة. فتحييد الفاعلين السياسيين أو تحجيم أدوارهم لا يعني أن "التأسيس الجديد" قد تخلص من كل بؤر المقاومة المحتملة.
وما دام هنالك إعلام غير مدجّن ونقابات ترفض الحوار تحت سقف مخرجات الاستشارة الوطنية وأحزاب تعي سوداوية مستقبلها في ظل "الديمقراطية المباشرة"، فإن الرئيس سيجد نفسه مضطرا لتسوية هذه الملفات العالقة قبل الاستفتاء -قبل تموز/ يوليو القادم- أو على الأرجح بعده.
وقد لا يكون صراع الشرعيات الذي ظهر بين قيادات "الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري"، وكذلك فتح تحقيق قضائي ضد بعض المنشآت العمومية (منشأتان نفطيتان ومنشأة في قطاع الفوسفات)، وسجن أحد الإعلاميين المحسوبين على معارضة الرئيس (رغم ارتباطه بالمنظومة القديمة)؛ إلا تكريسا لمنطق تدجين كل الأجسام الوسيطة، وتمهيدا للصراع القادم ضد المركزية النقابية وبعض المؤسسات الإعلامية والأحزاب المتهمة، تبعا للسردية الرئاسية بالوقوف خلف لوبيات الفساد أو التغطية عليها.
لفرض مشروعه السياسي، فإن آخر ما يحتاجه الرئيس هو وجود أحزاب قوية وإعلام حرّ وعمل نقابي مستقل. وإذا ما كان الرئيس قد نجح في تحييد الإعلام وإضعافه بفضل تعاون "الهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري" المعروفة اختصارا بـ"الهايكا" (وهي هيئة انتهت صلاحية عضويتها منذ 2019) فإن بقاء بعض الأصوات الرافضة لتصحيح المسار قد يدفعه إلى تعديل قانون الصحافة ذاته.
أما بالنسبة لصراع الرئيس ضد الأحزاب التي لم يُخف منذ الحملة الانتخابية إيمانه بأنها جزء من الماضي، فإنه قد حرص على جعل إصلاح "قانون الأحزاب" أحد مخرجات الاستشارة الوطنية. ولمّا كنا نعلم معنى "الإصلاح" من منظور "التأسيس الجديد" فإننا نُرجّح أن يعمل الرئيس على بناء ترسانة تشريعية تنتهي بإلغاء الحاجة إلى الأحزاب أو على الأقل تهميشها بصورة كبيرة.
وفيما يخص المركزية النقابية، فإنها قد أصبحت عاملا معرقلا للمشروع الرئاسي رغم تقاطعها معه في رفض العودة إلى ما قبل 25 تموز/ يوليو. فالمركزية النقابية ترفض مسار 25 تموز/ يوليو وتنتقد انفراد الرئيس بإدارة المرحلة الانتقالية والتحكم في مخرجاتها، كما أنها قد أعلنت رفضها للمشاركة في الحوار الوطني تحت سقف مخرجات الاستشارة الوطنية الإلكترونية ورفضها لسياسة "قتل الأحزاب"، كما أكدت إصرارها على حوار وطني جامع برعاية الاتحاد العام التونسي للشغل.
ولا شك عندنا في أن طرح المركزية النقابية يتعارض جذريا مع "التأسيس الجديد" وخارطة طريقه، وهو ما سيجعلها هدفا للهجمات الرئاسية في المرحلة المقبلة. فالجهات المانحة قد تغض الطرف عن إشراك الفاعلين السياسيين أو حتى عن عودة الديمقراطية في تونس، ولكنها لن تقبل بإقراض تونس دون إمضاء الشركاء الاجتماعيين، وفي مقدمتهم اتحاد الشغل الذي عليه التعهد بعدم تشغيل "الماكينة" لإفشال الإملاءات الاقتصادية.
يعلم الاتحاد أن التوقيع على الإملاءات خارج أي حوار وطني جامع سيفقده شرعيته، بل سيفقده علة وجوده ذاتها لأنه لن يستطيع عندها أن يتملص من مسؤوليته كما فعل مع ما يسميها بـ"العشرية السوداء". وهو ما يجعلنا نرجّح ألاّ يكون الصراع الأهم في المرحلة القادمة -أي الصراع الأكثر تحديدا لمستقبل تونس- بين الرئيس وخصومه السياسيين بقيادة جبهة الخلاص الوطني، بل بين الرئيس وشريكه الاجتماعي الأهم: الاتحاد العام التونسي للشغل. ونحن على يقين من أنه ستعاد هندسة المشهد التونسي بناء على نتائج هذا الصراع بين نواتي "تصحيح المسار"، ولكننا على يقين أيضا بأن المتحكم الرئيس في تلك النتائج لن يكون محليا مهما كانت قوة الرئيس أو خصومه.
twitter.com/adel_arabi21
"المأزق التونسي" بين بؤس الواقع وخطابات "الخلاص"
بعد خيبة التحشيد.. أما آن لقيس سعيد أن يُريح ويستريح؟