نبض العالم يتغير والعرب لا يتغيرون، والنُّظم الفاشلة والمهترئة في المنطقة، التي كرست ثقافة الهزيمة والخذلان، وفشلت في استرداد الحقوق المسلوبة والانتصار لقضايا الأمة، يتواصل عجزها عن استيعاب الشروط الموضوعية لمعنى الشرعية، وكيفية اكتسابها بحجم ما تقدمه السلطة الحاكمة للشعب ضمن ثوابت الحفاظ على السيادة والدولة، وهي فاقدة لأي استراتيجية للتجاوب مع تحديات العصر، أو النظر في طبيعة العلاقات الدولية التي تحكمها المصالح المتغيرة بتغير المحاور والتحالفات الاستراتيجية.
تمت مواجهة المد الاستعماري بمقاومة وطنية، رغبت في تحرير أوطانها والتخلص من أطماع الاستيطان واستنزاف موارد الأمة واسترداد السيادة وكرامة الشعوب. لكن مثل هذه الروح المقاومة بمختلف أشكالها، أصبحت تُنعت في المصطلح الغربي المعاصر بالحركات الإرهابية، والأمر مجسد في فلسطين كمثال حي يعكس مثل هذا النفاق الدولي والمعايير المزدوجة.
يحدث ذلك ضمن السياق العالمي الجديد، الذي استهلكت أطره معظم ثوابت المشترك الإنساني، وعملت على تدميرها، وحاولت رسم قواعد تواصلية مغايرة وتصدير خيرية إنسانية مغالطة وغير ناجزة، مثلت العولمة وتحرير الأسواق أبرز عناوينها، واشتغل دعاتها عبر صياحهم الهجين على امتداد عقدين أو أكثر على مواصلة مشروع الهيمنة بأدوات مبتكرة، في مقدمتها الإعلام ووسائل الاتصال المتعددة.
مسافة قصيرة من الزمن أوصلت البشرية إلى طريق مسدودة، لم تعد قادرة على إخفاء مساوئ هذا النهج الذي ساد العالم، أو تفنيد محصلة بائسة لمشروع دمر كل شيء. فالرأسمالية المتوحشة التي كانت عبارة عن إيقاع أحسن دعاة هذا النظام العالمي ضبطه والعزف على أوتاره، باتت تهدد بقاء البشرية على هذا الكوكب نتيجة مفاعيلها السلبية على المناخ، واستمرار الحروب على الموارد وطموح الهيمنة والنفوذ الاستراتيجي. لقد كان في حقيقته إيقاعا يُفرغ حياة الإنسان من المعنى، ويُسلط متطلبات مادية تُبعِدُه عن سلم القيم والأخلاق العليا، وقد انتهى هذا الإنسان فعلا إلى الاستعباد المضاعف عندما شيَّأه عالم الأشياء، وقد انغمس فيه ونسي نفسه.
الاضطرابات الاقتصادية التي طالت بلدانا عديدة بسبب الحرب الأوكرانية، ستؤدي إلى دعوات عاجلة في أنحاء العالم لإنهاء نظام الحرب والعقوبات
وأمريكا التي دمرت العراق وسوريا وأفغانستان وليبيا ولم تشارك في إعمار أي منها، التفتت الآن نحو أوروبا بعد أن فرغت من تخريب الشرق الأوسط. لكنها تُواجه اليوم قوة عُظمى، اسمها روسيا وليس أنظمة ضعيفة يسهل عزلها وإسقاطها وتفكيك بناها القومية. والعقوبات الأمريكية ضد فنزويلا وإيران وكوبا وكوريا الشمالية وغيرها، لم تغير سياسات تلك الأنظمة.
كما أن العقوبات ضد روسيا لا ترقى بالفعل إلى الضجة التي أثارها أصحابها، وإن هرولت دول الاتحاد الأوروبي خلف أمريكا كما هو معتاد. الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية في أوروبا، تتآكَل الواحدة تلو الأخرى، وتحل مكانها شرور العنصرية والحركات اليمينية النازية الجديدة.
وسيكون رخاؤها الاقتصادي وأمنها واستقرارها الذي تنعمت به شعوبها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، الضحية الأولى لهذه المواجهة المُتجسدة في الحرب الأوكرانية، وحالة الانهيار والفوضى والتفتت التي قد تترتب عليها. مبدأ الدفاع الجماعي داخل الحلف الأطلسي، لا ينطبق إلا إذا وقع الهجوم في أوروبا أو أمريكا الشمالية، ولا يشمل الصراعات في المناطق الاستعمارية. فهدف حلف الناتو بشكل أساسي هو حماية تشكيله الجماعي بالوسائل السياسية والعسكرية كافة.
ووافقت الدول الأعضاء بموجب معاهدة واشنطن، على أن الهجوم على إحداها يعني هجوما على الجميع، ويتطلب ردا جماعيا في إطار الحلف، لكن الحرب الروسية على أوكرانيا أربكت أوروبا وأمريكا استراتيجيا، وغيرت المعادلات، وأحرجتهم في أكثر من محطة، وبات السؤال: ماذا سيفعلون في حال امتدت الحرب لتشمل دولا أخرى قد يتم توريطها للتفكير في الانضمام إلى هذا التجمع العسكري المتهاوي؟
الثابت أن العديد من النقاشات الأوروبية حول كيفية إدارة التحديات الأمنية، التي تفرضها الصراعات على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي ومدى تأثيرها على أمن الاتحاد، مطروحة بقوة في هذه الأيام، وهم يعلمون جيدا أن روسيا لا تمزح في مجال أمنها القومي؛ فمثلما لم يقف الاتحاد السوفييتي صامتا حيال إنشاء حلف الناتو، وقام بتشكيل تحالف عسكري دولي مع سبع دول شيوعية من أوروبا الشرقية في عام 1955، أطلق عليه اسم حلف وارسو.
فإن الكرملين لن يقف مكتوف الأيدي الآن، وهو يحاصر من قبل الأطلسي بدفع من الولايات المتحدة الأمريكية. وفي الأثناء، أوروبا ليست مستعدة لعواقب الحرب على مجالي الطاقة والاقتصاد مهما حاول زعماؤها تصدير ثرثرة إعلامية لتخدير شعوبهم، وبات متوقعا أن تؤدي الحرب إلى وجود أمريكي أكبر في أوروبا، ووجود أقوى لحلف شمال الأطلسي على الجانب الشرقي، وتوثيق العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والناتو، على حساب استنزاف موارد الدول الأوروبية لمعالجة العواقب الناتجة عن الأزمة.
ويبدو أن الولايات المتحدة تتبع استراتيجية ترسانة من الديمقراطية في أوكرانيا، باصطلاح المحلل الاستراتيجي الأمريكي هال براندز. فقد تجنبت التدخل المباشر ضد الروس، بينما تتعاون مع الشركاء والحلفاء في تزويد حكومة كييف بالمال والسلاح. تلك الاستراتيجية التي تُذكر بدعم الولايات المتحدة لبريطانيا في أثناء الحرب الكونية الثانية، وقد حققت نجاحا كبيرا حينذاك، لكن من غير الممكن أن تنجح مع روسيا التي يطمح رئيسها إلى استعادة مجد الاتحاد السوفييتي.
وهو مستعد لمواجهة الغرب الأطلسي بكل إمكانيات بلده، وما أحرزه من تطور تقني وقدرات تكنولوجية عسكرية، خاصة عندما يدفع الحلف في سياق الحرب المتواصلة نحو انضمام السويد وفنلندا، في خطوات غير محسوبة العواقب. وبالنتيجة، كلما احتدم الصراع في أوكرانيا، فإن صداه سيتردد في المنطقة، باعتبارها إحدى ساحات المنافسة الاستراتيجية بين القوى الكبرى.
أظهرت الحرب العالمية الثانية أنه مع المؤسسات القائمة، كان من الممكن حشد الموارد على نطاق يتجاوز بكثير ما هو مطلوب اليوم، وبشكل فعال للغاية، لذلك دعونا، كما عبر تشومسكي، أن نستخدم ما هو متاح، ونفترض أن البشر قادرون على النظر إلى ما بعد الغد. فلا شك بأن التداعيات الاقتصادية السلبية للحرب ونظام العقوبات ستنجر عنها نتائج وخيمة في عشرات البلدان النامية التي تعتمد على واردات الغذاء والطاقة، وسيجد الحلف والدول الأعضاء أنفسهم مطالبين بصياغة أهداف جديدة تتماشى مع المصالح الحالية، وتخفيف التركيز المبالغ فيه على روسيا، وتنويع آليات العمل حتى لا تقتصر فقط على القوة العسكرية.
فالاضطرابات الاقتصادية التي طالت بلدانا عديدة، ستؤدي إلى دعوات عاجلة في أنحاء العالم لإنهاء نظام الحرب والعقوبات. وما من سبيل أنفع للجميع سوى بإعطاء مساحة أكبر للسياسة والدبلوماسية والشراكة الاقتصادية.
كاتب تونسي