منذ وطأ العابرون أرض
فلسطين التاريخية المقدّسة، زُعزع الاستقرار في المنطقة. المعاناة الفلسطينية المستمرة هي مسؤولية الإدارات الأمريكية المتعاقبة بالدرجة الأولى، فالسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط تقتات على أوهام تخفي تحتها سياسة متعجرفة، تولي كل الأهمية لمصالحها المتبادلة مع كيانها الصهيوني، وإن كانت تتعارض مع الحقيقة الموضوعية للقضايا المعلنة محل إجماع الشرعية الدولية التي تحظى بدعم معظم دول العالم.
إنه السقوط الأخلاقي في أوضح صوره، من جديد يأتي
بايدن للحديث عن وساطة أمريكية لحلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في إطار حرب
غزة، اتفاق يقدمه الرئيس الأمريكي على أنه تنازل سخي من الحكومة المتطرفة في إسرائيل، في انحياز متوقع لمصالح كيان الاحتلال، ثم على الفلسطينيين قبوله. هكذا ترى الإدارة الأمريكية الحل بعد دمار حرب همجية مستمرة منذ أشهر متتالية، هي من قادها وشارك فيها بالدعم العسكري والتأييد على جميع المستويات. صيغة المقترح أو توقيته ليست بالأمور المستغربة من واشنطن ضمن حسابات السياسة والانتخابات، هكذا كان عقلها الاستراتيجي المريض يقدر الأشياء على الدوام، فيما يتعلق بالصراع داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
النظام السياسي الأمريكي موظف لخدمة إسرائيل، وإلى اليوم، يعمل اللوبي الصهيوني داخل الأوساط اليمينية المسيحية الجديدة
الطّرف الأمريكي المنحاز دائما لإسرائيل لا يمكن أن يكون مؤهلا لتقديم الحلول، فالمعسكر الإسرائيلي الأمريكي واحد، حملات القمع في أمريكا والبلدان الغربية واضطهاد أصوات الاحتجاج بضغط صهيوني، تفضح كيف تخشى إسرائيل قوة الحقيقة التي تكشف عنصريتها المقيتة، أمام ما تقوم به من أعمال إبادة وجرائم ضد الإنسانية. ويعلم الجميع أنه لا يمكن لهذا الكيان أن يستمر في احتلاله للأراضي الفلسطينية، واضطهاد سكانها، دون مساعدة الولايات المتحدة التي تقدم له الأسلحة لقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتهديم البيوت وتهجير السكان. وهذه المساندة غير المشروطة لم تأت من فراغ، فقوّة اللّوبي الإسرائيلي تجعل أمريكا تعمل جاهدة في دعم إسرائيل في كلّ مغامراتها المجنونة. ولا ننسى حقّ النقض الذي تلوّح به في مجلس الأمن للحيلولة دون إدانة إسرائيل، مع أنّ العالم بأسره يرى الجرائم الصهيونية المفضوحة من تدمير وقتل وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في كلّ الحروب التي خاضتها في المنطقة، خاصة العدوان المتكرّر على غزّة. وبالطبع لا ترى أمريكا الصواريخ التي تدمّر البيوت وتقتل المدنيين، ولا تمانع في بناء المستوطنات، وضمّ أراض بشكل غير قانوني. وفي النهاية يأتي بايدن ليقول، إنه لا يوجد ما يشير إلى حدوث انتهاكات في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. على كلّ من يترشّح للانتخابات الرئاسية الأمريكية أن يؤدّي فروض الطاعة للكيان الصّهيوني وإلّا فإنّ «الإيباك» اللّوبي اليهودي الأكثر تأثيرا في الأوساط الأمريكية سيعمل على إسقاط المرشح الذي يحاول حتى أن يكون محايدا بشأن فلسطين وصراعها من أجل التحرر.
بهذا المعنى النظام السياسي الأمريكي موظف لخدمة إسرائيل، وإلى اليوم، يعمل اللوبي الصهيوني داخل الأوساط اليمينية المسيحية الجديدة ليوافق الكونغرس بشكل دائم على أهداف إسرائيل السياسية، وأن يغضّ الطّرف عن مشاريع الاستيطان، ويضخّ المال، ويشحن السلاح نحو تلّ أبيب، إضافة إلى الغطاء الدبلوماسي في المنظمات الدولية الذي يضمن تبرير أي عمل عسكري أو إجرامي تقوم به إسرائيل، ولا يهمّ إذا ما ارتقى إلى جرائم ضدّ الإنسانية أو جرائم حرب. كل هذه الخطوات تعززت منذ بداية الحرب الأخيرة على غزة في استماتة أمريكية غير مسبوقة، وعلى حساب أصوات انتخابية كثيرة سيخسرها حزب الديمقراطيين، الذي انحدر أخلاقيا وإنسانيا بسبب دعم كيان مجرم، وقمعه لأصوات الاحتجاج ضد انتهاكات صارخة وأعمال قتل وإبادة يراها العالم. لقد سقطت كل الأقنعة بعد هذا الاصطفاف المعلن للغرب الاستعماري بقيادة أمريكا مع كيان الاحتلال ضد الفلسطينيين.
عمل إسرائيل الدائم في الحصول على الدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي يفسّر تحالفها مع اليمين المسيحي، فالغايات واضحة وإن تغيّر توجّه الصهاينة واعتمادهم كليا على الولايات المتحدة، بعد أن كان توجّههم السياسي الأوّل مرتبطا بالمملكة المتحدة، كان من أهداف الحركة الصهيونية إنشاء دولة يهودية على أرض ما. وحاولت أن تحقق ذلك على أرض فلسطين بمساعدة بريطانيا الاستعمارية، التي كانت تحتلّ أرض فلسطين. وهكذا تحالف المال والسياسة العسكرية، فتوّج بإعلان قيام إسرائيل سنة 1948، وهو الهدف الذي عملت عليه الماسونية اليهودية التاريخية، وتشكّلاتها الصهيونية العالمية الجديدة، حتى حزب العمال في بريطانيا اليوم، يتجه بسرعة نحو اليمين، وموقفه من إسرائيل قد يكون أشد تأييدا من المحافظين، بالتالي لا يُنتظر من هؤلاء أي تغيير في الموقف تجاه كيان يرتكب أبشع الجرائم، تماما مثل الحزبين الجمهوري والديمقراطي في أمريكا، ولا نعتقد أن فوز ترامب سيمنع قمع الطلاب في الجامعات مثلا، أو سيسمح بفعاليات التضامن والكلمة الحرة داخل الجامعات المطالبة بوقف العدوان على غزة. أمريكا التي شاركت في الحرب على غزة عبر دعمها العسكري لإسرائيل تشير إلى ما تسميه مقترحا لوقف إطلاق النار على مراحل، وتلوح مرة أخرى بمصطلح السلام وما بعد الحرب والإعمار، هكذا دأبوا، يقتلون ويدمرون الأوطان ثم يحاولون إظهار انسانية زائفة عنوانها مساهمة منهم في السلام والإعمار.. ويتقنون ادّعاء الصدق والوساطة، وهم أقوى ظهير لإسرائيل وأغلب من انخرط منهم في عملية السلام الكاذبة إنّما هم مُوالون للّوبي الصهيوني بشكل تام. درجة الابتزاز السياسي الذي وصل الحال به في الولايات المتحدة على يد المحافظين الجدد، خاصة واليمين المسيحي اليهودي الصهيوني من استغلال النبوءات الدينية في العقدين الأخيرين، مخجلة فعلا لدولة عظمى تدعي التحكم في عالم قائم على قواعد. نسج الصهاينة السياسيون تلك الأكذوبة التاريخية على أنّه لم يكن هناك فلسطينيون يعيشون في أرض فلسطين، وما زالت السياسة الصهيونية إلى الآن تضلّل الكثير من اليهود في أمريكا والغرب عامة. ويستندون إلى نحو متزايد على الكنائس الإنجيلية وحزب اليمين القومي والعنصري المعادي للمسلمين.
إلى الآن، يلومون الضحية بتعلّة هجوم السابع من أكتوبر، ضمن عملية طوفان الأقصى ويكشفون بذلك عن الكولونيالية الملازمة للأيديولوجيا الأمريكية المعهودة، التي وفقا لها لا وجود لفلسطين، تلتقي إدارة بايدن في هذه النقطة مع الكيان الصهيوني الذي يريد بشكل أساسي أن يختفي الفلسطينيون، نتنياهو يحلم أن ينام ويصحو فيجد غزة قد ابتلعها البحر، كل القادة الصهاينة حلموا بذلك. سقطوا هم وبقيت غزة شامخة، هكذا هو العرف السائد للمجتمعات الاستيطانية الاستعمارية. أمريكا تدعم إسرائيل في ذلك ولهما الأهداف نفسها والغاية واحدة، لذلك تصد الإدارة الأمريكية جهود الدول لإقامة سلام يكفل الاعتراف بدولة فلسطينية كاملة الوجود، يضيرهم حتى اعتراف بعض الدول الأوروبية بها، ويمارسون الضغوط كعادتهم لطمس أي إشارة تدعم مشروعية الحق الفلسطيني التاريخي.
المصدر: القدس العربي