يعتبر الأمريكان الجندية أشرف المهن، ويوقرون العسكريين إلى درجة التأليه، ويضعون الجنود المتقاعدين، أي قدامى المحاربين، في نفس الرتبة التي يضع فيها المسلمون صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتوقف دولاب العمل في اليوم الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام لتكريم العسكريين المتقاعدين. ويكفي أن يقول أمريكي إنه جندي عائد من أفغانستان أو العراق، ليحظى بخدمة مميزة أو إعفاء من رسوم نقدية في مطعم أو مقهى، ويسمع عبارات من شاكلة: شكرا لكم لأنكم تدافعون عن وطننا وأمننا وتحاربون أعداءنا. ولهذا صار الانتماء للمؤسسة العسكرية الأمريكية حيلة ذوي النوايا والنزعات الإجرامية للحصول على معاملات خاصة، تعود عليهم بمكاسب مادية أو معنوية.
"الأمريكي القبيح" عمل روائي تم تحويله إلى فيلم سينمائي في ستينيات القرن الماضي، تدور أحداثه في دولة ذات اسم مفبرك في جنوب شرق آسيا، ويسرد جهود الولايات المتحدة الخاسرة ضد الشيوعية بسبب عدم الكفاءة الدبلوماسية، الناجمة عن الغطرسة والفشل في فهم الثقافة المحلية. ومعلوم أن الأمريكان عاثوا خرابا في آسيا ابتداء باليابان فكوريا، ثم كان ما كان من أمر جرائمهم وهزائمهم في فيتنام وكمبوديا ولاوس حيث أهلكوا الزرع والضرع. ولكن الإعلام الأمريكي ما زال يحتفي بشكل خاص بالمحاربين السابقين في فيتنام، ولا عليهم أنهم ضالعون في هلاك أكثر من ثلاثة ملايين شخص هناك، من بينهم 280 ألفا من الجنود الأمريكان وحلفائهم.
في أواخر شهر أيار/ مايو المنصرم حصد عنصري مهووس أرواح 19 تلميذا ومعلمين اثنين في مدرسة ابتدائية في يوفالدي بولاية تكساس الأمريكية، وأعاد إلى الأذهان المجزرة التي شهدتها مدرسة ساندي هوك في ولاية كنيكتيكت، التي راح ضحيتها عشرون تلميذا وستة من الموظفين. وبعد مجزرة يوفالدي بيومين، عقدت الرابطة الوطنية للسلاح الأمريكية اجتماعا رددت فيه موال أن حيازة السلاح حق ديمقراطي، وأن وجود أكثر من 300 مليون قطعة سلاح في أيدي المواطنين لا علاقة له بعمليات التقتيل بالجملة التي تشهدها الولايات المتحدة دون سائر بلدان العالم. والويل لأي نائب في الكونغرس الأمريكي ينادي بحل الرابطة أو تقييد حيازة السلاح؛ لأن الرابطة تستخدم عضلاتها المالية الضخمة لتحطيم كل من ينادي بذلك؛ لأنها مسنودة بشركات صناعة السلاح العملاقة، ونجحت في شراء الذمم حتى صار غالبية نواب الحزب الجمهوري يدينون بالولاء لها.
يتمتع الإعلام الأمريكي بقدر هائل من الاستقلال، بل إنه لا توجد وسيلة إعلام رسمية حكومية في الولايات المتحدة، ولكن يمكن الجزم بأن أكثر من 90 في المائة من أدوات الإعلام الأمريكي ضالعة في تضليل الرأي العام المحلي والخارجي، ولهذا لا يعرف معظم الأمريكيين أن بلدهم وحده من استخدم السلاح النووي ضد البشر في الحرب، ويصدقون أن جنودهم يقاتلون من أجل الدفاع عن الوطن في العراق وسوريا وأفغانستان، كما فعلوا في أمريكا اللاتينية وآسيا بشرقها وغربها.
كانت حرب الخليج الثانية (آب/ أغسطس 1990- شباط/ فبراير 1991) التي شنتها الولايات المتحدة على العراق لإرغامه على الجلاء عن الكويت؛ حدثا فريدا، ليس بسبب تفاصيل الحرب، ولكن لأن تلك الحرب كانت متلفزة، ورأى الملايين بعيون شبكة "سي إن إن" التلفزيونية الطائرات والصواريخ والراجمات الأمريكية تفعل العجائب في مهرجان الألعاب النارية المدمرة، ولم تنقل الشبكة قط شيئا عن مقاومة الجيش العراقي، بل حرصت على نقل مشاهد لجنود عراقيين يستسلمون صاغرين للأمريكان.
ثم كان الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، وقبل ضربة البداية بثلاثة أشهر كانت قناة الجزيرة قد وزعت عددا من كواردها الصحفية والفنية على بغداد وكركوك والبصرة ومواقع أخرى كانت مرشحة للقصف والاجتياح. ودعت القيادة العسكرية الأمريكية جميع وسائل الإعلام أن ترافقها خلال العمليات الحربية، وكانت الجزيرة هي الوحيدة التي رفضت ذلك، واختارت أن تكون حيث تسقط القذائف لا من حيث تنطلق. وهكذا كانت الجزيرة هي الأداة التلفزيونية الوحيدة التي غطت المقاومة العراقية للغزو على جميع الجبهات، مما أثار حنق الإدارة الأمريكية التي كالت تشكيلة ضخمة من الاتهامات للجزيرة، ثم قصفت مكتب الجزيرة في بغداد، مما أدى الى استشهاد الصحفي طارق أيوب، وإصابة المصور زهير العراقي بجراح بالغة.
وما يؤكد أن القصف كان متعمدا، هو أن الجزيرة زودت وزارة الدفاع الأمريكية وقيادة القوات المركزية الأمريكية بإحداثيات دقيقة لمكتبها كي لا يتعرض للقصف، فإذا بالقيادة الأمريكية تستخدم تلك الإحداثيات لتوجيه ضربة دقيقة للمكتب. بل وعلى ذمة صحيفة دايلي ميل البريطانية، نجح رئيس الوزراء البريطاني وقتها توني بلير في إقناع الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش بصرف النظر عن مقترحه بقصف مباني قناة الجزيرة في العاصمة القطرية، الدوحة.
ونجح الإعلام الأمريكي ليس فقط في أن يجعل المواطن الأمريكي يؤمن إيمانا جازما بأن بلاده نصيرة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن من يعاديها ينتمي إلى محور الشر، بل في أن يجعل أبناء الشعوب التي عانت وما تزال تعاني من البطش الأمريكي المباشر أو من خلال وكلاء أمريكا المحليين، بأن الولايات المتحدة هي أرض الأحلام الزاهية، وأنه لا يكسب القرعة (اللوتري) للفوز بالجنسية الأمريكية إلا ذو حظ عظيم.
وما كان ممكنا أن تنجح الحكومات الأمريكية المتعاقبة في تغطية قبح الأفعال بفصاحة الأقوال لولا تواطؤ الإعلاميين معها، بل إن رجلا مثل والتر ليبمان، يحظى بلقب عميد الصحفيين الأمريكيين المعاصرين، كان يؤيد تسخير الحملات الإعلامية الدعائية لـ"تحقيق الإجماع"؛ حتى يقبل الرأي العام بأمور كانت تحظى بالرفض العام. وبرر ليبمان ذلك بأن المواطنين عاجزون عن إدراك ومعرفة أين تكمن مصالحهم ومصالح بلدهم، بل مضى إلى أبعد من ذلك بالدعوة إلى تقسيم المواطنين إلى طبقتين: النخبة التي تمثل نسبة ضئيلة من الشعب، والتي تتمتع بدرجة عالية من الذكاء تتيح لها فهم وإدراك الأمور، والغالبية العظمى من الشعب الذين يصفهم بـ"القطيع الحائر أو الضال"، الذي يتحتَّم على الدولة أن تحمي نفسها من أفكاره وتصرفاته.
"الأمريكي القبيح" عمل روائي تم تحويله إلى فيلم سينمائي في ستينيات القرن الماضي، تدور أحداثه في دولة ذات اسم مفبرك في جنوب شرق آسيا، ويسرد جهود الولايات المتحدة الخاسرة ضد الشيوعية بسبب عدم الكفاءة الدبلوماسية، الناجمة عن الغطرسة والفشل في فهم الثقافة المحلية. ومعلوم أن الأمريكان عاثوا خرابا في آسيا ابتداء باليابان فكوريا، ثم كان ما كان من أمر جرائمهم وهزائمهم في فيتنام وكمبوديا ولاوس حيث أهلكوا الزرع والضرع. ولكن الإعلام الأمريكي ما زال يحتفي بشكل خاص بالمحاربين السابقين في فيتنام، ولا عليهم أنهم ضالعون في هلاك أكثر من ثلاثة ملايين شخص هناك، من بينهم 280 ألفا من الجنود الأمريكان وحلفائهم.
في أواخر شهر أيار/ مايو المنصرم حصد عنصري مهووس أرواح 19 تلميذا ومعلمين اثنين في مدرسة ابتدائية في يوفالدي بولاية تكساس الأمريكية، وأعاد إلى الأذهان المجزرة التي شهدتها مدرسة ساندي هوك في ولاية كنيكتيكت، التي راح ضحيتها عشرون تلميذا وستة من الموظفين. وبعد مجزرة يوفالدي بيومين، عقدت الرابطة الوطنية للسلاح الأمريكية اجتماعا رددت فيه موال أن حيازة السلاح حق ديمقراطي، وأن وجود أكثر من 300 مليون قطعة سلاح في أيدي المواطنين لا علاقة له بعمليات التقتيل بالجملة التي تشهدها الولايات المتحدة دون سائر بلدان العالم. والويل لأي نائب في الكونغرس الأمريكي ينادي بحل الرابطة أو تقييد حيازة السلاح؛ لأن الرابطة تستخدم عضلاتها المالية الضخمة لتحطيم كل من ينادي بذلك؛ لأنها مسنودة بشركات صناعة السلاح العملاقة، ونجحت في شراء الذمم حتى صار غالبية نواب الحزب الجمهوري يدينون بالولاء لها.
يتمتع الإعلام الأمريكي بقدر هائل من الاستقلال، بل إنه لا توجد وسيلة إعلام رسمية حكومية في الولايات المتحدة، ولكن يمكن الجزم بأن أكثر من 90 في المائة من أدوات الإعلام الأمريكي ضالعة في تضليل الرأي العام المحلي والخارجي
يتمتع الإعلام الأمريكي بقدر هائل من الاستقلال، بل إنه لا توجد وسيلة إعلام رسمية حكومية في الولايات المتحدة، ولكن يمكن الجزم بأن أكثر من 90 في المائة من أدوات الإعلام الأمريكي ضالعة في تضليل الرأي العام المحلي والخارجي، ولهذا لا يعرف معظم الأمريكيين أن بلدهم وحده من استخدم السلاح النووي ضد البشر في الحرب، ويصدقون أن جنودهم يقاتلون من أجل الدفاع عن الوطن في العراق وسوريا وأفغانستان، كما فعلوا في أمريكا اللاتينية وآسيا بشرقها وغربها.
كانت حرب الخليج الثانية (آب/ أغسطس 1990- شباط/ فبراير 1991) التي شنتها الولايات المتحدة على العراق لإرغامه على الجلاء عن الكويت؛ حدثا فريدا، ليس بسبب تفاصيل الحرب، ولكن لأن تلك الحرب كانت متلفزة، ورأى الملايين بعيون شبكة "سي إن إن" التلفزيونية الطائرات والصواريخ والراجمات الأمريكية تفعل العجائب في مهرجان الألعاب النارية المدمرة، ولم تنقل الشبكة قط شيئا عن مقاومة الجيش العراقي، بل حرصت على نقل مشاهد لجنود عراقيين يستسلمون صاغرين للأمريكان.
ثم كان الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، وقبل ضربة البداية بثلاثة أشهر كانت قناة الجزيرة قد وزعت عددا من كواردها الصحفية والفنية على بغداد وكركوك والبصرة ومواقع أخرى كانت مرشحة للقصف والاجتياح. ودعت القيادة العسكرية الأمريكية جميع وسائل الإعلام أن ترافقها خلال العمليات الحربية، وكانت الجزيرة هي الوحيدة التي رفضت ذلك، واختارت أن تكون حيث تسقط القذائف لا من حيث تنطلق. وهكذا كانت الجزيرة هي الأداة التلفزيونية الوحيدة التي غطت المقاومة العراقية للغزو على جميع الجبهات، مما أثار حنق الإدارة الأمريكية التي كالت تشكيلة ضخمة من الاتهامات للجزيرة، ثم قصفت مكتب الجزيرة في بغداد، مما أدى الى استشهاد الصحفي طارق أيوب، وإصابة المصور زهير العراقي بجراح بالغة.
نجح الإعلام الأمريكي ليس فقط في أن يجعل المواطن الأمريكي يؤمن إيمانا جازما بأن بلاده نصيرة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن من يعاديها ينتمي إلى محور الشر، بل في أن يجعل أبناء الشعوب التي عانت وما تزال تعاني من البطش الأمريكي المباشر، أو من خلال وكلاء أمريكا المحليين، بأن الولايات المتحدة هي أرض الأحلام الزاهية
وما يؤكد أن القصف كان متعمدا، هو أن الجزيرة زودت وزارة الدفاع الأمريكية وقيادة القوات المركزية الأمريكية بإحداثيات دقيقة لمكتبها كي لا يتعرض للقصف، فإذا بالقيادة الأمريكية تستخدم تلك الإحداثيات لتوجيه ضربة دقيقة للمكتب. بل وعلى ذمة صحيفة دايلي ميل البريطانية، نجح رئيس الوزراء البريطاني وقتها توني بلير في إقناع الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش بصرف النظر عن مقترحه بقصف مباني قناة الجزيرة في العاصمة القطرية، الدوحة.
ونجح الإعلام الأمريكي ليس فقط في أن يجعل المواطن الأمريكي يؤمن إيمانا جازما بأن بلاده نصيرة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن من يعاديها ينتمي إلى محور الشر، بل في أن يجعل أبناء الشعوب التي عانت وما تزال تعاني من البطش الأمريكي المباشر أو من خلال وكلاء أمريكا المحليين، بأن الولايات المتحدة هي أرض الأحلام الزاهية، وأنه لا يكسب القرعة (اللوتري) للفوز بالجنسية الأمريكية إلا ذو حظ عظيم.
وما كان ممكنا أن تنجح الحكومات الأمريكية المتعاقبة في تغطية قبح الأفعال بفصاحة الأقوال لولا تواطؤ الإعلاميين معها، بل إن رجلا مثل والتر ليبمان، يحظى بلقب عميد الصحفيين الأمريكيين المعاصرين، كان يؤيد تسخير الحملات الإعلامية الدعائية لـ"تحقيق الإجماع"؛ حتى يقبل الرأي العام بأمور كانت تحظى بالرفض العام. وبرر ليبمان ذلك بأن المواطنين عاجزون عن إدراك ومعرفة أين تكمن مصالحهم ومصالح بلدهم، بل مضى إلى أبعد من ذلك بالدعوة إلى تقسيم المواطنين إلى طبقتين: النخبة التي تمثل نسبة ضئيلة من الشعب، والتي تتمتع بدرجة عالية من الذكاء تتيح لها فهم وإدراك الأمور، والغالبية العظمى من الشعب الذين يصفهم بـ"القطيع الحائر أو الضال"، الذي يتحتَّم على الدولة أن تحمي نفسها من أفكاره وتصرفاته.
شارك
المزيد حول هذا الموضوع
المزيد من هذا الكاتب
