أجرت
فرنسا يومي 12 و19 حزيران/ يونيو 2022 انتخاباتها التشريعية السادسة عشرة خلال الجمهورية الخامسة، لانتخاب 577 نائبا، هو العدد الإجمالي لأعضاء الجمعية الوطنية. فمن أصل 748,953,48 مسجلا في الدور الأول، شارك 207,256,23 ناخبا وناخبة، أي بنسبة 51.47 في المئة، في حين لم يتجاوز عدد المشاركين في الدور الثاني 470,747,20، أي بنسبة 23.46 في المئة، وهي نسبة أقل من نظيرتها في الدور الأول..
وفي كل الأحوال سجلت
الانتخابات التشريعية الأخيرة نسبة واضحة من الممتنعين وعدم المشاركين، حيث بلغت في اقتراع 12 حزيران/ يونيو 2022 نسبة 5.52 في المئة، ووصلت إلى 8.53 في المئة في الدور الثاني، وهما معدلان مرتفعان قياسا للعمليات التشريعية السابعة في عهد الجمهورية الخامسة. وقد أرجعت مصادر كثيرة أسباب عزوف الجسم الانتخابي عن المشاركة إلى عوامل عديدة، أبرزها عدم وجود بدائل مقنعة عن الأغلبية الرئاسية، وانحصار التنافس الرئاسي في الطور الثاني بين الرئيس المنتهية ولايته (
ماكرون) وزعيمة التجمع الوطني "مارين لوبين".
إن احتمال حصول نوع من عدم الاستقرار السياسي والتجاذب بين المؤسسات السياسية وارد جدا، اللهم إلا إذا تمكنت الأحزاب والقوى النيابية من خلق أرضيات للتفاهم والتوافق حول إدارة الولاية الثانية للرئيس "ماكرون"
اللافت للانتباه في الانتخابات التشريعية الفرنسية الأخيرة أنه لأول مرة منذ العام 1988 يحصل رئيس الجمهورية على أغلبية نسبية لا تمنحه غطاء برلمانيا يمكنه من الاشتغال بتوافق مع الجمعية الوطنية، وقد حدث هذا أيضا منذ الإقرار الدستوري لولاية الرئيس في خمس سنوات عام 2000. والأكثر من كل هذا، تميزت الولاية التشريعية السادسة عشرة بتشتت وتجزُّؤ القوى والتنظيمات المشاركة في اقتراع 12 و19 حزيران/ يونيو 2022، كما تدل على ذلك النتائج الرسمية المعلن عنها، وهو ما سيُفضي إلى صعوبات على مستوى اختيار الأغلبية الحكومية، وتعقيدات على صعيد الاشتغال والتفاعل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، بل إن احتمال حصول نوع من عدم الاستقرار السياسي والتجاذب بين المؤسسات السياسية وارد جدا، اللهم إلا إذا تمكنت الأحزاب والقوى النيابية من خلق أرضيات للتفاهم والتوافق حول إدارة الولاية الثانية للرئيس "ماكرون" (2022-2027).
توزعت النتائج في الاقتراع التشريعي الفرنسي الأخير بين ثلاث مجموعات رئيسة، هي تحديدا: "جميعا من أجل الأغلبية الرئاسية"، وهي حركة الرئيس ومن حوله، وقد حصلت على 245 مقعدا من أصل 577، مما جعلها بعيدة عن الأغلبية المطلقة المطلوبة 289، بخلاف ما حصلت عليه في انتخابات 2017. تلتها حركة "الاتحاد الشعبي الجديد"، بقيادة "J :Luc Mélenchon" بـ131 مقعدا. أما النتيجة الثالثة فكانت من نصيب "التجمع الوطني" بـ89 مقعدا بزعامة "مارين لوبين". ويمكن إضافة قوة رابعة تتعلق بـ"اتحاد اليمين والوسط"، برئاسة "Christian Jacob"، وقد فازت بـ64 مقعدا.
رئيس بأغلبية نسبية لا تمنحه دعما برلمانيا، وقوى متنافرة من حيث الرؤى الأيديولوجية والسياسية، وفي الآن معا لا تمتلك هي الأخرى القدرة على فرض مطالبها وسياساتها، لافتقادها إلى القوة العددية المطلوبة، وليس في مُكنها التحالف فيما بينها لإقامة توازن فعال وفاعل في علاقتها بالأغلبية الرئاسية
نحن إذن أمام خريطة انتخابية مختلفة نوعيا عن سابقاتها: رئيس بأغلبية نسبية
لا تمنحه دعما برلمانيا، وقوى متنافرة من حيث الرؤى الأيديولوجية والسياسية، وفي الآن معا لا تمتلك هي الأخرى القدرة على فرض مطالبها وسياساتها، لافتقادها إلى القوة العددية المطلوبة، وليس في مُكنها التحالف فيما بينها لإقامة توازن فعال وفاعل في علاقتها بالأغلبية الرئاسية. ثم من زاوية أخرى، يسمح دستور الجمهورية الخامسة لرئيس البلاد باختيار
الوزير الأول بمحض إرادته، أي لا يلزمه أن يكون من الحزب الفائز بالأغلبية، خلافا للكثير من النظم الدستورية ذات الطبيعة
البرلمانية. فكيف إذن، سيُدير الرئيس "ماكرون" ولايته الثانية في ضوء نتائج الانتخابات التشريعية المبينة أعلاه؟
ثمة اتجاهان في النقاشات الدستورية والسياسية المواكبة للانتخابات التشريعية الأخيرة، والمحللة لنتائجها: يذهب أحدهما إلى أن الخريطة الجديدة لتركيبة الجمعية الوطنية الفرنسية ستسمح للطبقة السياسية الفرنسية بتطوير النقاش داخل البرلمان، وتعميق مضامينه، وستساهم تاليا في تطوير العمل البرلماني ودمقرطته أكثر. ويتطلب هذا الأفق من أجل تحقيقه في واقع الممارسة درجة عالية من انفتاح القوى الرئيسة في البرلمان الفرنسي على بعضها البعض، وتعاونها من أجل ترسيخ ممارسات جديدة للعمل البرلماني، وللعلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، لا سيما وأن فرنسا شهدت حالة شبه مماثلة على عهد كل من الرئيس "فرانسوا ميتران"، حين تعايش الاشتراكيون في مؤسسة الرئاسة مع اليمينيين على رأس الحكومة، أيضا لاحقا خلال ولاية الرئيس "جاك شيراك"، عندما قاد الاشتراكيون الحكومة برئاسة "جوسبان" (Jospin).
الطبيعة المشتتة لنتائج انتخاب الجمعية الوطنية الفرنسية ستؤثر سلبا على الحياة السياسية الفرنسية، وقد تضع المؤسسة البرلمانية في مآزق لم يتوقعها معدّو دستور الجمهورية الخامسة. أما حجتهم في ذلك فمصدرها الطبيعة المتنافرة للقوى السياسية الثلاث المتصدرة لنتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة
يُشدد اتجاه آخر على أن الطبيعة المشتتة لنتائج انتخاب الجمعية الوطنية الفرنسية ستؤثر سلبا على الحياة السياسية الفرنسية، وقد تضع المؤسسة البرلمانية في مآزق لم يتوقعها معدّو دستور الجمهورية الخامسة. أما حجتهم في ذلك فمصدرها الطبيعة المتنافرة للقوى السياسية الثلاث المتصدرة لنتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، لا سيما وأن الولاية الأولى لرئيس الجمهورية ظلت على امتداد خمس سنوات ساحة للنقد والنقد المتبادل، وقلما حظيت سياسات الرئيس "ماكرون" برضا وقبول هذه التنظيمات.
من المفروض أن يذهب رئيس الجمهورية وأغلبيته السياسية بعيدا في التفاوض مع القوى الفائزة في الاقتراع التشريعي الأخير، لا سيما حركة "اليسار الراديكالي" بقيادة "J/ Luc Mélenchon"، لأنها التنظيم السياسي المؤهل سياسيا وأيديولوجيا للبحث عن صيغ للتحالف لقيادة الولاية الثانية للرئيس "ماكرون"، ولأن نصيبها من المقاعد يساعد، في حال إضافته إلى الأغلبية الرئاسية، على تحقيق تغطية برلمانية كفيلة بإدارة الخمس سنوات المقبلة. بيد أن نجاح التفاوض مرتهن بمدى قدرة مؤسسة الرئاسة وأغلبيتها على الوصول إلى مشتركات حقيقية مع "الاتحاد الشعبي الجديد للخضر والاشتراكيين"، ومع الرؤى التي دافع عنها زعيمه "J/ Luc Mélenchon".