عندما يخرج عرّاب الدكتاتوريات وأمين عام "جامعة العجز العربية" ليعتبر وصول الرياضية "أنس جابر" إلى الدور النهائي من دورة "ومبلدون" لكرة المضرب "إنجازا كبيرا وفخرا للمرأة التونسية والعربية" فاعلم أنّه لا ينطق إلا عن هوى الاستبداد. قد لا نبالغ في القول إن نحن اعترفنا بكل شجاعة ومسؤولية بأنّ حصاد الأنظمة والشعوب العربية الحديثة هو حصريا حصاد الهزائم والانكسارات منذ سقوط المنطقة تحت الاحتلال العسكري المباشر وصولا إلى انكسار مسار الثورات الأخير. الهزيمة في كل مكان وعلى كل الجبهات اقتصادية كانت أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية وهي تتجلى عبر واجهات التخلف والفوضى والاستبداد وجحافل المهاجرين واللاجئين والعاطلين والمعتقلين.
ذكرنا في مقالنا السابق أنه لا تغيير في المنطقة ولا انفراجة منتظرة "حتى يغيروا ما بأنفسهم" لكن يبدو أن النظام الرسمي العربي مصرّ على الذهاب إلى الهاوية حتى الرمق الأخير. أما شعبيا فقد نجحت أذرع الثورات المضادة في إحياء حالة اللامبالاة الجماعية بعد أن ابتلعت الجماهير أكذوبة فحواها أنّ الثورات لا تجلب غير الخراب.
لكنّ إبداعات الاستبداد العربي في تأبيد الغفلة الشعبية لا تقف عند إنكار الهزيمة وطمس الحقيقة والوعود الكاذبة بغد أفضل وبمعجزات لا يأتيها إلا الله بل تصنع أشجارا حقيقية تخفي بها غابات محروقة وتغطي بها على الخراب الذي يعم الوطن الكبير من المحيط إلى الخليج.
في هذا الإطار التحليلي تتنزل هذه القراءة للاحتفال الرسمي الكبير الذي حظي ولا يزال يحظى به اللاعب المصري محمد صلاح والذي تحظى به اليوم الرياضية التونسية أنس جابر وقبلهما كثيرون.
دفع أطروحات المستبد
النظام الرسمي هو أكثرنا وعيا بالهزيمة وإدراكا لصعوبة التغطية عليها والتعمية على معالمها التي تأكل البصر نصاعة ووضوحا فهو يعلم جيّدا أنّ الجموع تحتاج إلى جرعات مسكّنة وحقن منوّمة تعطيه الأمل بأنّ النجاح ممكن في مزارع الطغيان. لذا تراه يحتفل بكل تجربة فردية تحمل رايات "سايكس بيكو" سواء كانت رياضية أو فنية أو علمية أو صناعية خاصة إذا جاءت من وراء البحار، حيث تحتك المواهب وتتواجه الطاقات وتتنازل الدول والحضارات.
يعلم العقل العربي الحاكم جيدا أنّ هذه النجاحات نجاحات فردية وأنه لم يساهم فيها ولم يسهر عليها بل حققها أصحابها بعرقهم وإرادتهم وبعزيمة لا تلين ضد العوائق والصعوبات التي يضعها نظامه في طريقهم. قليلون جدا هم أصحاب المعجزات الذين نجحوا وأبدعوا بصدق داخل مزارع "سايكس بيكو" حيث صارت الأرض عقيما عاقرا لا تنتج غير الشوك والصبار.
الدول التي ينخرها الفساد ويحكمها من لا كفاءة له ولا قدرة ولا مؤهلات لا يمكنها أن تفرز نماذج اجتماعية أو علمية أو رياضية أو ثقافية ناجحة. إن فساد الطرق المؤدية إلى النجاح وإقصاء الفئات الفقيرة الأكثر قدرة على المنافسة والصبر والصمود وتجاوز التحديات هو الذي يفسر سبب الهزائم الكبيرة التي تسبح فيها الأمة وأوطانها منذ عقود.
إنّ ارتفاع معدلات الجريمة ومظاهر الانحراف والفوضى تُفسّر في جزء كبير منها بحالة الشعور باليأس والإحباط من القدرة على النجاح والإبداع والإنتاج في أوطان مغتصبة. لذا نرى كل الطاقات العربية المبدعة قادمة من وراء البحار وهو الأمر الذي يفسر في جزء منه أمواج هجرة الأدمغة والكفاءات إلى الخارج بحثا عن إطار ملائم لتفجير طاقاتها المبدعة والهرب من جحيم الأوطان.
كم من عبقري مبدع وكم من طاقة جبارة انتهى بهما الأمر إلى الجلوس على الأرصفة أو قابعين في زنازين الأنظمة؟ وكم من نابغة انتهى به الأمر في قوارب الموت هاربا من الحريق الكبير الذي تركه وراءه؟
لهذا نرى أذرع السلطة تبحث بجنون عن كل تجربة ناجحة في الخارج حتى تنسبها لنفسها فتخفي بها سوءات ما خلّفه النظام من عبقريات مضحكة مثل مشروع الكفتة التي تعالج السرطان في مصر لصاحبه "اللواء عبد العاطي".
بين محمد صلاح وأنس جابر
لا حديث في الشارع الرياضي التونسي والعربي إلا عن وصول البطلة أنس جابر إلى الدور النهائي لواحدة من أشهر دورات كرة المضرب العالمية. وهو نجاح لا يمكن لأحد أن ينكره لأنه ككل النجاحات ثمرة تضحيات وصبر وألم لكنه يبقى نجاحا فرديا لا يخص إلا صاحبته لأنها مصدر العمل وأداة الفعل وباب النجاح وهي وحدها من يستحق الإشادة والتكريم والاعتراف.
هذا النجاح الفردي في مصدره وفي رمزيته وفي منتهاه لن يغيّر من الواقع التونسي الأليم شيئا بل إن هو أخرج من إطاره الفردي يصير أفيونا يراد به باطل كما تفعل أبواق الاستبداد اليوم. إنها الشجرة المثمرة التي يحاول النظام عبرها إخفاء حقول الشوك والصبار التي تمتدّ وراءها على مرمى البصر.
خذ مثلا تلك النجاحات التي يحاربها الحاكم في تونس وهي النجاحات الحقيقية القادرة على تحقيق نقلة نوعية للمجتمع بخلاف النجاحات الفردية. نجح الفلاح "حسن الشتيوي" بعد خمس وعشرين سنة من البحوث والتطوير والتجارب في إنتاج حبة قمح أطلق عليها اسم "حبّة البركة" التي تنتج بين ستّ وثمانين سنبلة ومائة وتسعين في أحسن الحالات. لا يقتصر هذا النجاح الكبير على المساهمة في تحقيق الأمن الغذائي لكنه تمكن من المحافظة على البذور الأصلية التي كادت تندثر بسبب الجرائم الفلاحية التي ارتكبتها دولة الوكالة الاستعمارية.
هذا النجاح لا تشجعه السلطة الحاكمة بل تحاربه كما فعلت حين استدعت مؤخرا الفلاح "حسن شتيوي" إلى التحقيق بسبب هذه "الجريمة الإرهابية". لن نتحدّث عن عبقرية "البشير التركي" أو الشهيد "محمد الزواري" ونجاحاته الهندسية في مجال الطيران قبل أن تغتاله يد الغدر الصهيونية في تونس أمام منزله وأطفاله فتحكم عليه وعلى مشروعه بالإعدام رميا بالرصاص.
هناك إذن نجاحات ممكنة غير مُكلفة ولا مزعجة لاستقرار نظام الوكالة بل هي مناسبات رياضية مهرجانية يطرب لها العالم ويرقص لها الطغاة وتحتفل بها الطبقات البورجوازية والمخمليات العربية البائسة. أما نجاحات العمق العميق القادرة على تغيير موازين القوى وتحقيق السيادة الوطنية وتطوير الغذاء والدواء والسلاح فتلك أقرب إلى "العمليات الارهابية" منها إلى النجاحات العلمية.
النجاح الفردي والتوظيف السياسي
كيف يعتبر الناطق الرسمي باسم الاستبداد العربي فوزا رياضيا فرديا بأنه فخر للمرأة العربية في حين أنه فخر فردي لا دخل للآخرين فيه؟ كيف تعمى عينه عن ملايين النساء القابعات تحت مطرقة الفقر والتهميش والعنف والتحرش والتعذيب في معتقلات الأنظمة التي ينطق باسمها؟
يعلم العقل العربي الحاكم جيدا أنّ هذه النجاحات نجاحات فردية وأنه لم يساهم فيها ولم يسهر عليها بل حققها أصحابها بعرقهم وإرادتهم وبعزيمة لا تلين ضد العوائق والصعوبات التي يضعها نظامه في طريقهم. قليلون جدا هم أصحاب المعجزات الذين نجحوا وأبدعوا بصدق داخل مزارع "سايكس بيكو" حيث صارت الأرض عقيما عاقرا لا تنتج غير الشوك والصبار.
بالأمس كذلك كان اللاعب "محمد صلاح" الذي عانى الأمرين من التمييز والتهميش في مسقط رأسه ووطنه مصر هدفا للتوظيف السياسي حيث تحاول أذرع النظام تقديم حالة نجاحه الفردية على أنها نجاح للنظام نفسه. صحيح أنّ صلاح ليس "أبو تريكة" اللاعب الخلوق الملتزم بقضايا أمته والمحكوم بمصادرة ممتلكاته في وطنه لكنه يبقى نموذجا يترجم قدرة الفرد العربي على النجاح خارج أسوار الوطن.
ليس فشل المنتخبات الرياضية العربية وانهيار المنظومات الثقافية والرمزية جميعها ناجما عن طبيعة الإنسان العربي أو عن انعدام الكفاءة والعزيمة بل هو نتيجة طبيعية لعطب مسارات النجاح المختصة في محاربة العقول والقدرات المبدعة. لكنها في المقابل تبقى الداعم الرئيسي للتفاهة والتسطيح وتقديم محدودي الكفاءة بفضل انتشار المحسوبية والولاءات والفساد بشكل عام.
لا يكون النجاح والفوز حقيقيا بنّاء إلا متى توفرت الشروط اللازمة من عدالة اجتماعية واكتفاء يومي وتكافؤ للفرص مؤسسٍ على المنافسة النزيهة بما هي الضامن الحقيقي لفوز الأجدر والأكثر استحقاقا. لكنّ الدول التي ينخرها الفساد ويحكمها من لا كفاءة له ولا قدرة ولا مؤهلات لا يمكنها أن تفرز نماذج اجتماعية أو علمية أو رياضية أو ثقافية ناجحة. إن فساد الطرق المؤدية إلى النجاح وإقصاء الفئات الفقيرة الأكثر قدرة على المنافسة والصبر والصمود وتجاوز التحديات هو الذي يفسر سبب الهزائم الكبيرة التي تسبح فيها الأمة وأوطانها منذ عقود.
زيارة بايدن إلى السعودية.. العامل الإسرائيلي