بعد فترة وجيزة من انتخابه رئيسا لتونس في أواخر عام 2019، نزل قيس سعيّد إلى المقهى المعتاد في العاصمة وكأن شيئا لم يتغير، وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ، بات الرئيس التونسي متهما بالانقلاب والديكتاتورية، بعد حله البرلمان وإجرائه استفتاء على دستور جديد مثير للجدل، وفقا لتقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست.
ونقلت الصحيفة عن عامل بالمقهى يدعى فاروق الشيحاوي الذي لم يصدق عينيه، أن الرجل الذي كان حتى وقت قريب يدرّس القانون بالجامعة، ويوقف سيارته البيجو القديمة دائما في الخارج، ويسدد فاتورته، و"هو مثل الشعب تماما"، أصبح برفقة الأمن واستقبال حشد من الناس، لقد صار رئيسا.
وقال الشيحاوي: "لقد التقطت صورة سيلفي مثل صديق. بصراحة، كان الأمر مميزا جدا".
وبحسب الصحيفة الأمريكية، فإنه بالنسبة للشيحاوي، فقد عزز ذلك اللقاء إيمانه، وهو ما يشترك فيه العديد من مؤيدي الرئيس،
بأن سعيّد واحد منهم.
ولفتت الصحيفة إلى أن سعيد يصر على أن الاستفتاء المثير للجدل على دستور جديد سيقود تونس إلى مستقبل أكثر ازدهارا، فيما يعتقد العديد من التونسيين الآخرين أن العكس سيتحقق، ويقولون إن سعيّد أمضى العام الماضي في تنفيذ عملية استيلاء مطولة على السلطة، وإن دستوره المقترح، الذي نُشر قبل أسابيع فقط، قد صيغ من خلال عملية غير شرعية.
ورأو أن الاستفتاء لن يؤدي إلا إلى ترسيخ حكم الرجل الواحد وتدمير التقدم الذي تم إحرازه منذ أن أطاحت ثورة البلاد عام 2011 بالديكتاتور زين العابدين بن علي وأطلقت الربيع العربي في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
ولا يوجد حد أدنى لمعدل المشاركة المطلوبة، وقاطع الكثيرون من معارضي سعيّد العملية لتجنب
منحها المصداقية، فيما انتقد خصومه
قراره بالتحدث علنا عن استفتاء يوم الاثنين الذي وصفوه بأنه انتهاك صارخ لقواعد
الصمت الانتخابي، وفقا لـ"واشنطن بوست".
وقالت هيئة الانتخابات إن نسبة المشاركة تجاوزت الـ27%، وهي نسبة أعلى مما توقعه العديد من المراقبين، بحسب الصحيفة الأمريكية.
ويأتي
التصويت بعد عام على إقدام سعيّد على إقالة البرلمان وإقالة رئيس
وزرائه، ما أدى إلى تقسيم البلاد فجأة بين من احتفلوا بقراره باعتباره ضروريا
لإنهاء أزمة سياسية مستمرة ومن استنكره باعتباره انقلابا يهدد بقاء الديمقراطية
الوحيدة التي خرجت من الربيع العربي.
شعبية.. رغم فقدانه الكاريزما
ولفتت الصحيفة إلى أن سعيد بأسلوبه المتزن في الكلام وإصراره على استخدام اللغة العربية الفصحى بدلا من اللهجة
التونسية أكسبه لقب "RoboCop" حتى إن بعض مؤيديه، بمن فيهم الشيحاوي، يعترفون بأنه يفتقر إلى
الكاريزما النموذجية والألفة الاجتماعية اللذين غالبا ما يصاحبان شخصية سياسية
ناجحة.
ورغم ذلك، فقد ترشح للرئاسة في وقت رحب فيه التونسيون، الذين سئموا عقدا من الفشل في
تحسين الاقتصاد والسياسيين الذين لم يفوا بوعودهم، بمكانته كغريب نسبي في النظام
السياسي وتصورا لمصداقيته. وحصل على 73% من الأصوات.
وقد
حظي بشعبية كبيرة في الصيف الماضي مع أولئك الذين رأوا أن تحركاته الصارمة لتعليق
البرلمان ضرورية للتخلص من المسؤولين الفاسدين أو غير الفاعلين، بما في ذلك في حزب
النهضة الإسلامي المعتدل، الذي كان ذات يوم قوة مهيمنة في الحكومة.
لكن
بالنسبة لبعض هؤلاء المؤيدين، كانت الشعبية قصيرة الأجل، إذ تعاني البلاد
الغارقة في أزمة اقتصادية متفاقمة وتواجه انقساما سياسيا واسع النطاق، في مواجهة
ما يعتبره العديد من مؤيديه في السابق من عواقب سوء فهمهم السابق.
قسم الشعب والعائلة
قال
عبد الرؤوف بالطبيب، وهو دبلوماسي متقاعد عرف سعيّد منذ عقود وكان جزءا من دائرته
المقربة قبل استقالته في عام 2020: "لقد مر تحت أنظار الجميع، وأغرق البلاد
في أزمة".
ولم تكن
المحامية والسياسة سامية عبو، مفتونة بسعيّد أبدا، لكنها كانت من بين أولئك الذين
أشادوا بتدخله غير التقليدي في تموز/ يوليو الماضي، على أمل أن يمثل بداية جديدة
للديمقراطية في البلاد.
ولكن
بحلول أيلول/ سبتمبر، عندما أعلن سعيّد عن تمديد حالة الطوارئ وتوسيع نطاق سلطاته،
شعرت بأنه انحرف كثيرا عن النص.
وفي كانون الأول/ ديسمبر، أعلن أن البرلمان سيظل معلقا حتى إلى ما بعد استفتاء تموز/ يوليو.
وأخيرا في آذار/ مارس، قال إن البرلمان قد تم حله وأنه منذ ذلك الحين استبدل بأعضاء اللجنة الانتخابية المستقلة أعضاء معينين من قبله.
وقالت عبو إنها تشعر بالثقة من أن الدستور الجديد يضع الأساس لـ "دكتاتورية"، معلقة على دعمها لقراره الأولي في تموز/ يوليو الماضي، بالقول: "لا يمكنني أن أندم على
شيء كان يجب أن يحدث"، مضيفة أن ما حدث بعد ذلك "تم بسوء نية ولم يكن صادقا".
وتابعت السياسية التونسية:
"لقد نجح في تقسيم الشعب إلى قسمين.. لم نعش هذه التجربة أبدا، حتى في ظل
نظام بن علي.. لقد أصبحنا متعصبين، سواء مع أو ضد. ولم يعد الناس يبتسمون لبعض، في الأسرة الواحدة".
اقرأ أيضا: تسلسل زمني منذ ثورة تونس وحتى الاستفتاء الجديد (إنفوغراف)
انقلاب على معاونيه
وذكرت "واشنطن بوست"، أن الخبير الذي كلفه سعيّد بكتابة الدستور الجديد هو من بين أولئك الذين ينتقدون
الرئيس علانية، معتبرا أن مشاركته بالاستفتاء ستكون
"خيانة" أخلاقية.
ووافق العميد السابق لكلية الحقوق بجامعة تونس، صادق بلعيد، الذي درس سعيّد عندما كان
شابا، على قيادة اللجنة الاستشارية المسؤولة عن صياغة الوثيقة
القانونية الجديدة.
وحينها، قال إنه كان يعرف سعيّد منذ عقود، ووصفه بأنه "ودود جدا، ولطيف جدا، ومتواضع جدا".
ويتذكر
بلعيد أنه عمل لأسابيع بلا كلل في المشروع، حيث قال إنه في اليوم التالي لتقديم نسخته
الكاملة من الدستور الجديد، دخل المستشفى لإجراء عملية كان قد أجلها لكتابة
الوثيقة.
وفي وقت
لاحق من ذلك اليوم، في سريره في المستشفى وهو لا يزال تحت تأثير التخدير، قال بلعيد إن سعيّد
زاره وسلمه كومة من الأوراق وصفها بأنها نسخة معدلة من عمله.
ولم
يدرك بلعيد، وهو في الثمانينيات من عمره، إلا بعد مغادرة الرئيس، أنه كان يحمل
نسخة مختلفة تماما من الدستور، ويبدو أن سعيّد قد كتبها بنفسه إلى حد كبير.
وتمنح النسخة الجديدة سعيّد صلاحيات إضافية وتقلل من نفوذ البرلمان، من بين تغييرات أخرى أدانها خصومه على نطاق واسع.
وقال
بلعيد: "إنها كوميديا حقيقية" تنتهي بشكل سيئ.. "الحقيقة هي أن
الرئيس استخدم هذه المكانة التي يتمتع بها في أعين السكان لتمرير نص لا يستجيب
لاحتياجات أو مطالب الشعب ولكن لنواياه".
انقسام شعبي
بالعودة
إلى المقهى، قال الشيحاوي لـ"واشنطن بوست" إن سمعة سعيّد كشخص "مثقف" هي التي دفعته نحو تأييده، وأضاف: "اعتقدت أنه كان حلما..
رجل من الشعب يصبح رئيسا؟ لم يكن ذلك منطقيا للغاية".
الآن وقد أصبح سعيّد في السلطة، كما قال، فإنه يدعم أي قرار قد يتخذه الرئيس، لأن "كل ما يفعله هو لأجل الشعب".
وخارج
المقهى مباشرة، أعرب سامي بن محمد (42 عاما، بائع)، عن رأي أقل تفاؤلا. فقد أعرب عن أسفه للوضع الاقتصادي المتدهور وقال إنه سيقاطع الاستفتاء.
وأضاف: "أي رئيس يعمل لمصلحته.. في الأحياء الفقيرة يخطط الجميع للهجرة بشكل غير قانوني.. لا أعتقد أنه من الممكن إصلاح الأمور هنا".
والسبت، تجمع حشد صغير في وسط
البلد، للاحتجاج على الاستفتاء والتعبير عن دعمهم لحزب
النهضة.
وقالت فتحية عزيز: "نحن هنا لأن السيد قيس سعيّد يقوم بانقلاب في تونس. إنه يغير كل شيء.. الرئيس يعزل نفسه وليس ديمقراطيا".
في
الجوار، كانت كوثر القطيتي (36 عاما، مصممة غرافيك)، تمشي مع ابنتها البالغة من
العمر ست سنوات، والتي كانت تحمل علما تونسيا صغيرا.
وقالت إنها ستصوت بـ "نعم" يوم الاستفتاء، لأنها تثق في أن سعيّد ينوي وضع البلاد على مسار أكثر ثباتا من أجل مستقبل ابنتها.
وأضافت: "لديه خلفية في القانون. إنه يعرف جيدا ما الذي يفعله.. لن يكون ديكتاتورا أكثر من الآخرين".
NYT: سعيّد سيمرر دستوره.. ولكن ماذا بعد؟
إعلام فرنسي: الاستفتاء بتونس سيقضي على سراب الديمقراطية
هيئة بريطانية تغلق ملف تبرعات قطرية للأمير تشارلز