امتدت المواجهة الأخيرة بين دولة الاحتلال والمقاومة الفلسطينية لأيام
قليلة فقط، لكنها حصدت أرواح العشرات من الفلسطينيين. هذا المواجهة التي بدأها
الاحتلال وأسماها عملية "الفجر الصادق" وردت عليه حركة الجهاد الإسلامي
بعملية "وحدة الساحات"؛ لم تعد استثناءً في مسار القضية الفلسطينية
مؤخراً، بل على العكس تماماً، باتت نموذجاً متكرراً يشابه بعضه بعضاً في الوسائل
والأدوات وحتى الخطاب.
لا شك في أن التفاصيل كثيرة فيما يتعلق بالتصعيد الأخير، والذي بدا مختلفاً
نوعاً ما عن سابقيه، ولا شك كذلك في أن الفصائل الفلسطينية وفي مقدمتها الجهاد
ستعمل على دراستها واستخلاص العبر منها. لكن يهمنا هنا الإشارة ولو سريعاً
لاستخلاصات رئيسة تبدو في غاية الأهمية للمستقبل، وهي:
الأولى، كل مواجهة نسيج نفسها. خاضت المقاومة الفلسطينية مواجهات عديدة مع الاحتلال وراكمت خبرة لا بأس
بها، وبدا أن هناك منحى تصاعدياً إيجابياً لصالحها ويخصم من رصيد الاحتلال، رغم
الفوارق الهائلة في الإمكانات. وقد كانت معركة "سيف القدس" العام الفائت
ذروة هذه المواجهات، حيث حملت متغيرات ودلالات استراتيجية أهمها الربط الوثيق بين
فلسطين ككل، جغرافياً وديموغرافياً، وبما شمل مشاركة شعبية لافتة على هامش مخططات
الاحتلال في القدس والمسجد الأقصى.
التفاصيل كثيرة فيما يتعلق بالتصعيد الأخير، والذي بدا مختلفاً نوعاً ما عن سابقيه، ولا شك كذلك في أن الفصائل الفلسطينية وفي مقدمتها الجهاد ستعمل على دراستها واستخلاص العبر منها
إلا أن هذا الاضطراد الإيجابي في أداء المقاومة ونتائج المواجهات ليس
حتمياً ولا تلقائياً، وإنما هو نتيجة التخطيط الجيد والقراءة الموضوعية واختيار
التوقيت الأنسب للاشتباك (والذي قد يكون حتمياً او اضطراراً أحياناً حين يشنه
الاحتلال). وبالتالي، لا يمكن للفصائل الفلسطينية أن تزهد في هذه العوامل التي
تساهم في ردم الفجوة الهائلة في القوة والإمكانات مع الاحتلال.
الثانية، البيئة الإقليمية والدولية. إحدى القراءات "
الإسرائيلية" بخصوص معركة "سيف القدس"
العام الفائت أن الفترة الطويلة التي فصلت بينها وبين أقرب المعارك الكبيرة (2014)
كانت طويلة جداً، بما سمح للفلسطينيين بتطوير أدواتهم ومراكمة القوة، ما يعني أن
المواجهات والمعارك في المستقبل قد تكون أسرع وتيرة وأقرب زمناً.
وبالتالي ثمة أهمية ينبغي أن تولى للبيئة الدولية والإقليمية، فهي عامل
مؤثر في القرار "الإسرائيلي"، وكذلك في مقاربة المواجهة والمواقف
الدولية والإقليمية ومنها وكذلك -وإن بدرجة أقل- نتائجها. ولعل التطورات الدولية،
وفي مقدمتها الحرب الروسية- الأوكرانية والتوتر الأمريكي– الصيني والأزمة
الاقتصادية على مستوى العالم، كانت مما شجع الاحتلال على الجولة الأخيرة ضامناً
تراجع حدة ردود الفعل الدولية.
ثمة أهمية ينبغي أن تولى للبيئة الدولية والإقليمية، فهي عامل مؤثر في القرار "الإسرائيلي"، وكذلك في مقاربة المواجهة والمواقف الدولية والإقليمية ومنها
الثالثة، الحاضنة الشعبية. لا تغيب
الحاضنة الشعبية عن حسابات فصائل المقاومة ولا ينبغي لها أن تغيب. لستُ مع
المبالغة والتهويل في فكرة أن "
غزة تركت لوحدها"، فهذه من متغيرات
الأحداث، إذ كان الخارج في فترة ما ساحة الصراع والداخل بعيد عنه، واليوم العكس،
ولستُ كذلك مع مقولة أن الشعب الفلسطيني في غزة لم يعد قادراً على الصمود أكثر
وتحمل المزيد من المواجهات، فقد قيل ذلك بعد كل مواجهة وأثبت الناس عكسه في كل
مواجهة كذلك.
بيد أن ذلك لا يعني عدَّ الحاضنة الشعبية "في الجيبة" ولا
تجاهلها أو إخراجها من الحسابات، بل يوجب على الفصائل الفلسطينية تعزيز صمودها
مادياً ومعنوياً، والمساهمة في تثويرها والبناء على ذلك، ومراعاتها في الخطاب بلا
مبالغات ولا استعلاء ولا تهوين من تضحياتها، وتجنيبها التصعيد والخسائر ما أمكن
ذلك، وقبل ذلك وبعده إقناعها بجدوى المقاومة عموماً والمواجهة الآنية خصوصاً.
الرابعة، الغرفة المشتركة. من
إنجازات الفلسطينيين المهمة في غزة الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة، رغم أنه من
المتوقع أنها ليست تامة القدرات ولا شاملة التنسيق وإنما تعمل وفق الممكن والمتاح.
ورغم ذلك، هناك حاجة ملحة لتطوير عمل هذه الغرفة وتحويلها لجسم فاعل يملك قرار
الحرب والسلم بتنسيق وتناغم تام بين أعضائها.
وليس المهم هنا الصورة الخارجية أو ما ينعكس للناس، بل حقيقة الوضع في
الميدان، إذ قد تتبدى مصلحة في المناورة وتبادل الأدوار وتنسيق الردود تحت سقف
الغرفة بما يخدم مسار الاشتباك مع الاحتلال، وهذا يتطلب تواصلاً أعمق بين الفصائل
وكذلك مع الشعب.
لم تكن المواجهة الأخيرة في مستوى ما سبقها، بل لعله من غير المبالغة القول إن كفة الاحتلال قد رجحت فيها، وكان فيها الكثير مما ينبغي استدراكه، وهذا لا بأس به فالحرب كر وفر
في الخلاصة، لم تكن المواجهة الأخيرة في مستوى ما سبقها، بل لعله من غير
المبالغة القول إن كفة الاحتلال قد رجحت فيها، وكان فيها الكثير مما ينبغي
استدراكه، وهذا لا بأس به فالحرب كر وفر. ولذلك من المهم استخلاص الدروس منها
لتفادي السلبيات في المستقبل واجتراح الإنجاز.
وإذا ما كانت المواجهات مع الاحتلال حتمية، فيتعين على المقاومة أن تعمل
على ترشيدها، بحيث تختار هي وليس الاحتلال التوقيت والأهداف وتكون هي صاحبة
المبادرة، فضلاً عن تجنب النمطية في ردود الفعل بحيث لا يكون الرد على كل تجاوز من
الاحتلال تصعيداً عسكرياً ورمياً بالصواريخ بالضرورة، فذلك أدعى أن يخفف المفاجأة
ويقلل مساحات التأثير.
إن اهتمام الفصائل الفلسطينية بهذه الأبعاد، وحرصها على التجديد والإبداع،
وكذلك مراعاتها للحاضنة الشعبية وإقناعها -دائماً- بجدوى موجات التصعيد والحروب،
هو الكفيل بأن يكون الأداء تصاعدياً ومراكماً للنقاط في وجه الاحتلال.
twitter.com/saidelhaj