صوامع لتوفير مخزون إستراتيجي من القمح في فلسطين، ومشروع لتزويد جميع المخيمات بالكهرباء المولّدة بالطاقة الشمسية، ومخازن لتخزين البترول، وسدود مائية في بعض المحافظات ومحطات لتنقية المياه العادمة.. هذه بعض المشروعات الكبرى التي قال رئيس الوزراء الفلسطيني إنه سيعرضها على مجلس الوزراء.
من المرجّح أن القارئ العربي، لولا كلمة فلسطين الظاهرة في طيّات الكلام، لم يكن له أن يتوهّم أنّ هذه المشاريع يُوعَد بها الشعب الفلسطيني من حكومته، لاسيما وأنّ العربي، في بلاد تمتعت باستقرار طويل، وبما يفترض أنه استقلال حقيقيّ عن العامل الاستعماري الفاعل مباشرة في واقعه وأرضه وبيئته، وبموارد هائلة يمكن لحكومته التحكّم بها بلا مؤثّر خارجيّ، لم يرَ شيئاً من هذه المشروعات، أو رأى بعضها منقوصاً وفاسداً، أو غير واضح الأثر كفاية في حياته، فكيف بسلطة، نشأت محدودة، وظلّ الاحتلال يحدّ منها، حتى أفقدها لا مِن أيّ قدرة ماديّة في الإدارة والتأسيس والإنشاء والاستقلال الاقتصاديّ فحسب، بل وحتى في معناها السياسي وفي قدرتها على تمثيل الفلسطينيين.
يستلم الموظفون الفلسطينيون منذ شهور طويلة رواتبهم منقوصة، وتدور أسئلتهم كلّ شهر حول نسبة الخصم من الراتب، ويتتبّعون في الأسابيع الأخيرة أخباراً تتحدث عن برامج تستهدف عشرات الآلاف منهم، لتصفيتهم من الوظيفة العمومية بالتقاعد الاختياري أو الإجباري، بالإضافة لإشاعات عن احتمالات خصم دائم بنسبة 10% من رواتبهم، وذلك في حين باتت الحركة الاقتصادية اليومية في الضفة الغربية تعتمد على أجور الفلسطينيين الذين يعملون في الداخل المحتلّ عام 1948؛ بمداخيل تفوق بأضعاف ما يمكن تحصيله من العمل داخل الضفّة الغربية نفسها، وقد بدأ الاحتلال أخيراً بتحويل أجورهم مباشرة إلى البنوك العاملة في الضفّة الغربية، بهدف مكافحة غسيل الأموال وتقليل حركة "الكاش"، وبينما تقول السلطة إنّ هذه الخطوة تهدف إلى الحفاظ على حقوق العمال ومكافحة "سماسرة التصاريح"، فإنّ الجمهور الفلسطيني يتوقع أن تصير أجور العمال في الداخل مورداً ماليّاً مهمّاً للسلطة بتحصيل الرسوم والاقتطاع الضريبي، فضلاً عن مكاسب سياسية واقتصادية وأمنية أخرى سوف تتحصّل من ذلك.
تكاد تعتمد السلطة الفلسطينية بالكامل في السنوات الأخيرة على الجباية من الفلسطينيين، وهذه الجباية يتحكم بها الاحتلال الإسرائيلي بنحو أو بآخر، ولا سيما فيما يتعلق بالجباية من الحركة التجارية الخارجية فيما يعرف بـ "المقاصة"، والتي يقتطع منها الاحتلال مبالغ هائلة بدعاوى مختلفة، من أهمها مصادرة ما يساوي مدفعوات السلطة للأسرى وعوائل الشهداء. يتحكم كذلك الاحتلال بكلّ ما يتعلق بالعمال الفلسطينيين من الضفّة الغربية الذين يعملون في الداخل المحتلّ، إذ لم تعد السلطة وسيطاً في استصدار التصاريح وتسهيل الحركة للفلسطيينين، بعدما وسّع الاحتلال ما يسمى "وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق"، وهي بديل عن الإدارة المدنية الإسرائيلية التي توّلت إدارة حياة الفلسطينيين في الضفّة الغربية وقطاع غزّة قبل تأسيس السلطة الفلسطينية، وتتعامل اليوم مباشرة مع الجمهور الفلسطيني بوسائل متعددة إلكترونية وباللقاء المباشر.
كلّ هذه الأخبار تأتى متزامنة مع تسيير الاحتلال رحلة لأربعين فلسطينيّاً من الضفّة الغربية من مطار "رامون" في جنوبي النقب إلى قبرص، في خطوة وإن كانت سوف تنعكس سلباً بالتأكيد على الاقتصاد الأردني، بالنظر إلى كون الأردن نافذة الفلسطينيين إلى العالم، فإنّها في الوقت نفسه تستثني السلطة الفلسطينية من أيّ إشراف شكليّ على خط السفر هذا.
الحاصل من ذلك كلّه، أنه لا مشروع سياسي، ولا خيار مواجهة، ولا قدرة على تعزيز صمود الفلسطينيين، ماذا يتبقى من السلطة بعد هذا كلّه؟ يتندّر بعض الساسة الإسرائيليين بأنه لا مانع لديهم لو سمّت السلطة نفسها "إمبراطورية" فالمهم الحقيقة على الأرض (أكثرهم له مشكلة حتى مع التسمية). على أية حال هذا هو المآل الحتمي لسلطة تسبق التحرير ولا تتبعه!
ما سبق لقطات قليلة من واقع كبير، لا يمكن الحديث فيه عن سلطة قادرة على إنشاء شيء من تلك المشاريع التي تحدّث عنها رئيس الوزراء محمد اشتية، وهو صاحب تصريحات سابقة عن الانفكاك الاقتصادي عن "إسرائيل"، وهي عملية لا يمكن لها أن تتم من داخل المسار، أي من السلطة نفسها المشروط وجودها وقدرتها بالشرط الإسرائيلي، فالقرار والحالة هذه إسرائيلي صرف، ثم لا يمكن الحديث عن قدرات اقتصادية بهذا الحجم، والسلطة تعتمد بالكامل على الفلسطينيين، دون أن يكون في المقابل ثمن هذا الاعتماد مشروعاً سياسيّاً يَحْمِل الفلسطينيين على الصبر والانتظار، أو حركة في الواقع لتعزيز صمودهم، مما يجعلها والحالة هذه عبئاً عليهم، مما سوف يستثمره الاحتلال ليجعل نفسه في النتيجة أفضل الحلول الاقتصادية والمعيشية للفلسطينيين، من أي حلّ فلسطيني أو عربي، وهذا ما تمكن ملاحظته بلا مزيد عناء في مسألتي العمال والسفر.
في الأيام الأخيرة، كان الفلسطينيون قد استعادوا تصريحات سابقة، مضى عليها أكثر من أربع سنوات، لوزير المواصلات في حينه، قال فيها إنه خلال خمس سنوات ستعتمد حركة المواصلات في رام الله ونابلس على أنفاق وجسور يراها الفلسطينيون لأوّل مرة. من نافلة القول إنّ شيئاً من ذلك لم يحدث، تماماً كما أنّ تصريحات السيد اشتية لن تتحول إلى وقائع، يتزامن ذلك كلّه، مع تصريحات للرئيس عباس متذمرة من زيادة أعداد السيارات في الضفّة الغربية بما لا تحتمله بنية الضفّة الصغيرة وغير المؤهلة، وذلك بعدما رأى الازدحامات المرورية في رام الله.
ثمّة مفارقة طريفة في هذا الأمر، فالسلطة هي التي تشجع على عمليات الاقتراض وشراء السيارات، لتحصيل موارد جمركية هائلة، ولإفادة المنظومة البنكية المتحالفة مع الواقع السياسي، ثم تالياً لتحصيل موارد من الوقود الذي هو في فلسطين الأعلى سعراً من أيّ بلد عربي آخر! لكنها في المقابل لم تطوّر البنية التحتية لاستعياب هذه الزيادة الفاحشة في أعداد السيارات!
الأهمّ لم يُقَل حتّى الآن، فهل هذا هو النقاش الذي ينبغي أن يدور بالنسبة لقضية تحرر من الاحتلال، بمعنى هل هذه مشاريع مقترحة لتعزيز صمود الشعب في سياق مواجهة الاحتلال؟ يذكّر هذا السؤال بتصريحات تكررت كثيراً للراحل صائب عريقات في بدايات اجتياح الاحتلال لمناطق "أ" في العام 2002 أثناء انتفاضة الأقصى، حينما كان يستعرض الخسائر في البنى التحتية بينما كانت الشهادة لغة الحديث اليومي بالنسبة للفلسطينيين.
الحاصل من ذلك كلّه، أنه لا مشروع سياسيا، ولا خيار مواجهة، ولا قدرة على تعزيز صمود الفلسطينيين، ماذا يتبقى من السلطة بعد هذا كلّه؟ يتندّر بعض الساسة الإسرائيليين بأنه لا مانع لديهم لو سمّت السلطة نفسها "إمبراطورية" فالمهم الحقيقة على الأرض (أكثرهم له مشكلة حتى مع التسمية). على أية حال هذا هو المآل الحتمي لسلطة تسبق التحرير ولا تتبعه!
فوح الياسمين.. عن أجمل الشهداء وأجمل الأمهات
فلسطين بين محوري المقاومة والتطبيع
إدارة الصراع بين العزة والهوان والندية والمهانة.. مفاهيم ملتبسة (13)