بوفاة ملكة بريطانيا، طُويت صفحة «شاهدة على عصور»، فقد تولّت عرش بريطانيا وعمرها 26 عامًا بعد وفاة والدها الملك جورج السادس، وبقيت ملكة 70 عامًا، وكان لها دور بارز في شحذ همم البريطانيين أثناء الحرب العالمية الثانية، فذهبت إلى الجنود، وزارت المصابين، وخطبت في الشعب، وتركت بصمة حقيقية في نفوس الناس، وظلت -رغم بقائها الطويل في السلطة- محبوبة من الجماهير، وحَكَمًا بين السلطات.
وبدا لافتًا لكل مَن تابع رد الفعل داخل بريطانيا على وفاة الملكة أنها تمثل قيمة حقيقية لدى الناس ونقطة توافق داخل النظام السياسي، الذي حافظ على عراقة تقاليده رغم الحداثة والتطور.
فكل المذيعين الإنجليز الذين غطوا خبر وفاة الملكة ارتدوا رباطة عنق سوداء، وكذلك المذيعات ارتدين جميعًا ملابس سوداء حدادًا غير مصطنع على وفاتها، وتحدث الجميع بوقار وهدوء، كما أنه بدا مدهشًا أن كل نواب البرلمان والسياسيين فعلوا نفس الشىء، رجالًا ونساء، وتحدثت رئيسة الوزراء الجديدة في مجلس العموم عن دور الملكة، وكيف أنها كانت رمزًا لوحدة بريطانيا، وأكد نفس الكلام ممثل المعارضة العمالية، الذي أضاف أن قاعة المجلس شهدت خلافات سياسية حادة، وبقيت الملكة فوق الخلافات.
وأذكر أني زرت مجلسي العموم (البرلمان) واللوردات (المُعيَّن من قِبَل الملكة) منذ حوالي عشر سنوات، ولفتت نظرى قاعته المبهرة، التي تُعد واحدة من أعرق وأفخم القاعات التى شهدتها، وفيها حافظت بريطانيا على تقليد منذ مئات السنين، وغير متكرر في دول أوروبا الديمقراطية، وهو أن نواب الشعب المنتخبين يأتون في يوم إلقاء الملكة خطابها في مجلس اللوردات ليطرقوا باب المجلس العتيق، ثم يفتح لهم الحرس الباب ويدخلوا في صمت ليستمعوا إلى خطاب «جلالة الملكة» واقفين، في حين يبقى «اللوردات» في مقاعدهم جالسين، في مشهد نادر الحدوث إلا في بريطانيا ذات التقاليد الملكية والديمقراطية معًا.
وقد تفسر هذه التقاليد العريقة جانبًا من المشاهد الحالية وهذا الالتفاف الشعبي الكبير حول الملكة في حياتها وعقب وفاتها لأن الملكية البريطانية هي سلطة بالتراضي وليست بالإجبار، كما أنها تملك ولا تحكم، لأنها رمز للأمة، ولديها بعض الصلاحيات، التي تتسع في أوقات الطوارئ والأزمات الكبرى، ويعتبرها أغلب الشعب والنخب السياسية والحزبية مصدر الاستقرار في النظام السياسي لأنها فوق الأحزاب والحكومة من الناحية المعنوية وليس من ناحية إدارة الحكم وتفاصيله.
الثقافة البريطانية إجمالًا ثقافة محافظة لا تميل إلى التغييرات الثورية، إنما عرفت ثورات من أجل إصلاح النظام القائم، وبالتالي تطورت نحو الملكية الدستورية، وليس النظام الجمهوري مثل فرنسا.
ستبقى تقاليد الملكية البريطانية العريقة ظاهرة فريدة لها «بريق الهدوء»، حتى لو كانت صراعات أحزابها تعرف «صخب السياسة»، فستبقى الملكية هناك عنوانا للتوافق الثقافي والمجتمعي والسياسي.