اضطرت
إسرائيل الأسبوع الماضي إلى إقالة مدير
مكتب الاتصال في الرباط ديفيد غوفرين. القرار جاء على وقع الفعاليات والتظاهرات
التي عمّت المدن
المغربية احتجاجاً على فضيحة التحرّش الجنسي في مكتب الاتصال
والتطبيع مع إسرائيل بشكل عام، مع إطلاق هاشتاغ "أغلقوا مكتب
التطبيع والتحرّش"
الذي انتشر وتصدّر وسائل التواصل الاجتماعي، مع دعوات مستمرة لفعاليات وندوات على
وسائل الإعلام الجديد التي لا تستطيع السلطات السيطرة عليها أو قمعها بشكل تام.
القصة باختصار، أن وزارة الخارجية الإسرائيلية كانت
قد استدعت أوائل أيلول/ سبتمبر الجاري ديفيد غوفرين،
للتحقيق معه بتهمة التحرّش
والاستغلال الجنسي لموظفات مغربيات بمكتب الاتصال الإسرائيلي بالمغرب، ومخالفات
مالية ورشاوى منها سرقة وهدايا قدمها القصر الملكي إلى المكتب، إضافة إلى تجاوزات
مالية أخرى.
الوزارة كانت قد أرسلت قبل ذلك نهاية آب/ أغسطس
الماضي لجنة تحقيق إلى الرباط لسماع شهادات الموظفين في مكتب الاتصال، كما الضحايا
أنفسهم، مع أحاديث عن تباينات وخلافات وصراعات واسعة بينهم. وبالطبع التجاوزات المالية
وصلت إلى حد تبديل الهدايا الثمينة التي تلقاها المكتب من السلطات المغربية بأخرى
رخيصة، كما حصل مع ساعة كارتير مثلا (بآلاف الدولات) وترتيب لقاءات لزوار ومسؤولين
إسرائيليين بشكل شخصي وغير رسمي، كما الحصول على هدايا شخصية ورشاوى من قادة
المواطنين اليهود في المغرب.
ثمة أمور عديدة لافتة في الفضيحة ينبغى التوقف عندها وتسليط الضوء عليها، كما ملف التطبيع مع تل أبيب بشكل عام، تحديداً لتزامنها مع رفض وزارة الخارجية الإسرائيلية إعطاء موقف رسمي وواضح من قضية الصحراء الغربية أو الاعتراف بمغاربيتها
كان لافتاً كذلك الصمت المدوّي من الحكومة
المغربية، بينما رفض الناطق باسمها مصطفى بايتاس الحديث عن القضية بحجة أنها لم
تناقشها أصلاً، وهو نفسه كان قال قبل ذلك وبأسابيع قليلة إن الحكومة لا تخجل من التطبيع
مع إسرائيل.
ثمة أمور عديدة لافتة في الفضيحة ينبغى التوقف
عندها وتسليط الضوء عليها، كما ملف التطبيع مع تل أبيب بشكل عام، تحديداً لتزامنها
مع رفض وزارة الخارجية الإسرائيلية إعطاء موقف رسمي وواضح من قضية الصحراء الغربية
أو الاعتراف بمغاربيتها، بينما زعم النظام أن هذه القضية تمثل القاعدة والأساس في مسيرة
التطبيع الراهنة مع الدولة العبرية.
في السياق، لا بد من الإشارة إلى أن الخارجية الإسرائيلية
عرفت بالفضيحة منذ سنة تقريباً، مع تقديم موظفة مغربية في مكتب الاتصال شكوى رسمية
إلى الناطق باسم الوزارة باللغة العربية، ولكن لم يتم إعطاؤها أي اهتمام بل جرى التعتيم
عليها، مع الاستغراب هنا أن الموظفة لم ترسل شكوى مماثلة إلى السلطات المغربية، مع
احتمال أن تكون قد فعلت ولكن تم تجاهلها أو حتى مطالبتها بالصمت.
أما تحرك الخارجية الإسرائيلية بعد سنة من علمها بالفضيحة
فجاء على خلفية التباينات والتجاذبات والتكتلات داخل المكتب الاتصال وربما الوزارة
نفسها، وحتى الساحة السياسية في الدولة العبرية بشكل عام على أعتاب الانتخابات
المبكرة الخامسة خلال أقل من أربع سنوات، وإدراكها صعوبة أو استحالة لململة الفضيحة
والتعتيم عليها أكثر أو إبقائها بعيدة عن الأضواء، وربما فهمت أن كلفة التعاطي معها
الآن ستكون أقل كلفة من التستر عليها، واحتمال انفجارها وذهابها إلى اتجاهات أبعد وأخطر
تمس العلاقات ومسيرة التطبيع مع المغرب بشكل عام. ومن هنا تصرّفت بمنطق أن محاصرة
النار في الظرف الحالي أسهل وأقل كلفة منها بعد حين.
تجب الإشارة كذلك إلى أن الفضيحة لا تقتصر على التحرّش
والابتزاز الجنسي لموظفات مغربيات، وإنما تأخذ أبعاداً أخطر تتضمن الرشاوى والاستيلاء
على الهدايا، وتصرّف مدير المكتب وكأنه عزبة أو إقطاعية له ولأصدقائه داخل المغرب
وخارجها.
تحرك الخارجية الإسرائيلية بعد سنة من علمها بالفضيحة فجاء على خلفية التباينات والتجاذبات والتكتلات داخل المكتب الاتصال وربما الوزارة نفسها، وحتى الساحة السياسية في الدولة العبرية بشكل عام على أعتاب الانتخابات المبكرة الخامسة خلال أقل من أربع سنوات، وإدراكها صعوبة أو استحالة لململة الفضيحة والتعتيم عليها أكثر
في هذا الصدد لا بد من الانتباه إلى أنه تم تعيين
غوفرين أصلاً جاء بناء على تربيطات وصداقات وشللية بين قادة المواطنين المغاربية "اليهود"،
وآخرين في فرنسا يملكون مصالح اقتصادية في المغرب وأفريقيا بشكل عام، ضمن تصوّر أن
المكتب والمغرب عموماً سيمثل قاعدة للانطلاق والتوغل في أفريقيا مع انخراط ومساهمة
اقتصادية ومالية إماراتية أيضاً.
من جهتها، تصرّفت السلطات المغربية وكأنها غير
معنية بالأمر ولا يخصها ولم تقم بأي تحرّك أو ردّ فعل، على الرغم من أن الجريمة وقعت
بحق مواطنات مغربيات وعلى التراب الوطني، إضافة إلى تجاوزات مالية ورشاوى واستيلاء
على هدايا رسمية في موقف لا يمكن استيعابه أو وضعه في أي سياق، اللهم إلا التستّر
على الفضيحة ضمن فهم وقناعة صحيحة مفادها أن الفضيحة الأساس هي التطبيع نفسه،
وبالضرورة ستتفرّع عنها
فضائح أخرى، وعليه لا يمكن مناقشتها أو التحقيق فيها
بشفافية وعلانية ومهنية دون فتح ملف التطبيع مع الدولة العبرية.
في السياق لا بد من الإشارة كذلك إلى رفض وزارة
الخارجية الإسرائيلية وبالتزامن مع الكشف عن الفضيحة؛ إصدار موقف من قضية الصحراء الغربية
لجهة الاعتراف بمغاربيتها تحديداً، علماً أن الدولة العبرية تتجنب اتخاذ موقف صريح
من القضية لأسباب مختلفة؛ أهمها متعلق بالربط مع القضية الفلسطينية نفسها، وإعادة فكرة
حلّ الدولة الواحدة الذي يعني زوال إسرائيل، ومع التوازن الديموغرافي والواقعي والتاريخي
لصالح العرب الفلسطينيين، وعليه تهرّبت ولا تزال من اتخاذ موقف صريح ولم تستخدم نفوذها
أو لوبياتها وأدواتها في العاصمة الأمريكية واشنطن للترويج لمغاربية الصحراء، ما يفسر
كلام الملك محمد السادس في خطاب العرش نهاية تموز/ يوليو الماضي؛ عن غموض موقف من
وصفهم بالشركاء الجدد من القضية.
وبالعموم وبناء على المعطيات مجتمعة، فلا شك أن
الفضيحة وما صاحبها من أحداث دفعت مزيدا من الهواء في أشرعة
مقاومي التطبيع الذي
لا يتمتع أصلاً بشعبية أو جماهيرية في الشارع المغربي، لذلك تم اللجوء إلى قضية الصحراء
الوطنية بامتياز لتبريره وتمريره، في استخدام موصوف لقاعدة أنظمة الاستبداد عند
استخدامها المقدس لتبرير وتمرير المدنس.
مناهضو ومقاومو التطبيع فهموا ذلك جيداً، ولذلك
قاموا بفعاليات متعددة للتعبير عن رفض الفضيحة منها الاعتصام اللافت أمام البرلمان
(9 أيلول/ سبتمبر)، مع برامج متواصلة لتحركات وفعاليات ولقاءات وندوات ذات صلة،
بما في ذلك إطلاق هاشتاغ "أغلقوا مكتب التطبيع والتحرّش"، ومطالب عدة
أخرى لا تتعلق بالفضيحة فقط وإنما بالتطبيع نفسه باعتباره فضيحة بحد ذاته.
الفضيحة وما صاحبها من أحداث دفعت مزيدا من الهواء في أشرعة مقاومي التطبيع الذي لا يتمتع أصلاً بشعبية أو جماهيرية في الشارع المغربي، لذلك تم اللجوء إلى قضية الصحراء الوطنية بامتياز لتبريره وتمريره
في النهاية وباختصار، لا تجب الاستهانة بالتطوّر،
أي إقالة مدير مكتب الاتصال الإسرائيلي ديفيد غوفرين، وتأثيره العام على التطبيع بأي
حال من الأحوال. ورغم الزيارات المتواصلة بين الطرفين بما في ذلك زيارة رئيس الأركان
المغربي الفاروق بلخير إلى إسرائيل الأسبوع الماضي في ما بدا كحالة إنكار وهروب
موصوف إلى الأمام، وتدفق المسؤولين الإسرائيليين بشكل فظّ ومبتذل على الرباط
والاتفاقيات الموقّعة أيضاً بشكل مريب، إلا أن التطبيع نفسه كان ولا يزال هشّاً ولا
يستند إلى قاعدة سياسية واقتصادية واجتماعية صلبة. والفضيحة زعزعت أركانه ولا شك، بما
في ذلك القاعدة الأساس المزعومة المتعلقة بقضية الصحراء التي تزامنت معها.
وعمل متواصل وكبير ودؤوب من القوى الرافضة للتطبيع
سيؤدي إلى إفراغه من محتواه وصولاً إلى إنهائه وإغلاق مكتب التطبيع الفضيحة بحد
ذاته، تماماً كما حصل مطلع القرن الجاري مع مكتب الاتصال السابق عند اندلاع الانتفاضة
الفلسطينية الثانية، علماً أن الضفة الغربية تغلي الآن والإعلام العبري يتحدث صبحاً
ومساء عن انتفاضة قادمة باتت حتمية ومسألة "متى" لا "هل"، في
ظل الجرائم وممارسات التهويد والاستيطان الإسرائيلية والاستلاب، خاصة على أعتاب الانتخابات
لقاعدة أن ما لم يتحقق بالقوة يتحقق بالمزيد منها، ما يعني ببساطة تأجيج الوضع وصبّ
مزيد من الزيت على نار الغضب المشتعلة أصلاً في الشارع الفلسطيني، خاصة لدى الشباب
الذين يمثلون نصف المجتمع الحي والحيوي أصلاً.