الكتاب: التغيّر الاجتماعي في العالم العربي الإسلامي :تخلف وعطالة
الكاتب: سعيد الحسين عبدلي
الناشر: بدعم من منظمة هانس سيدل، المغاربية لطباعة وإشهار الكتاب،الطبعة الأولى تونس 2021، (246 صفحة من القطع المتوسيط).
مثّل موضوع النهضة العربية الشغل الشاغل للنخب منذ مرحلة ما قبل الاستعمار حتى الآن، فجسد الأمة العربية الإسلامية آخذ في التمزّق بين مكوناته في إطار ما يسمى بالدول الوطنية وسياسات التقوقع، في ظل واقع دولي قائم على التحالفات والتكتلات. وإذا ما أردنا أن نقيّم مشروع النهضة في منطقتنا، لوجدناه لا يخرج عن قطبي الأصالة والحداثة، سواء الانتصار إلى إحداهما أو بالتوفيق بين القراءتين.
ورغم جدية عديد القراءات التي حدثت في هذا الجانب في القرن 19 منذ الأفغاني (1838 ـ 1897) ومحمد عبده (1849 ـ 1905)، مرورا برواد الإصلاح في القرن 20 حتى رواد المرحلة الاستعمارية، وصولا إلى المرحلة الحديثة من أمثال محمد عابد الجابري ومن قبله مالك بن نبي، فإن هذه القراءات ظلّت رهينة إطاراتها النظرية، في ظل واقع عربي قائم على الاستسلام لحالة الخنوع والوهن والتأخر في الكثير من المجالات؛ بفعل تخلّف نظمه السياسية والتعليمية، وغياب روح المبادرة خاصة في تحقيق مطلب الوحدة.
ومن أسباب ذلك أيضا، تأخره المعرفي والعلمي وانتشار شتى مظاهر البؤس الحضاري في مستوى بنيات المجتمع، أو شخصية الإنسان العربي المسكون بالتواكل والعجز والتقاعس. والسبب حسب مالك بن نبي، هو عدم تخلّصنا من عامل التبعية والاستعمار، وهي خلاصة استقاها من النظرية القرآنية {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}. وحسبنا أن نشير هنا إلى أهم تلك الرؤى النهضوية والإصلاحية، وهي ثلاثة تيارات متضاربة: الأصالة والحداثة والانتقائية.
إن مجرد رؤية تأملية إلى واقع الأمة الإسلامية ومنها المنطقة العربية، يجرّنا حتما أن ندقّق في المشاريع السياسية التي تتالت عليها، وهي لا محالة كثيرة وتحمل العديد من الإشكاليات الواجب تدارسها. ولعل التجارب السياسية وطبيعة الأنظمة الحاكمة، أبرز ما يشد الانتباه ويعجّل بالبحث في عديد مواطن الغموض، التي طالما مثّلت محرّمات لا يجوز طرقها بحكم ارتباطها الوثيق بقداسة الحاكم. وقد أبانت التجربة التاريخية أن مجرد طرحها للنقاش والدراسة يعدّ استثناء؛ ذلك أن درجة الرقابة والحصار اللذين كانا مفروضين حتى على الحقل المعرفي، حالا دون ذلك، أي تدارسهما بشكل طبيعي.
لكن منطق الحراك الاجتماعي أبى إلا أن يغيّر هذه المعادلة، لتتغيّر المعطيات ميدانيا، ويشهد الإسلام السياسي حضورا مكثفا على الساحة السياسية، خاصة في المنطقة العربية مثلما هو الحال في مناطق أخرى من العالم الإسلامي، ونقصد تحديدا في تركيا بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بزعامة أردوغان، والتجربة الإيرانية مع ثورة الخميني 1979.
وعليه، فإن ما يشد الانتباه هنا ـ سواء في السياق المعرفي عندما يتعلق الأمر بالإسلام السياسي كمبحث إشكالي أو كممارسة وفعل سياسي في الوجه المقابل ـ، هو تناول ذلك وفق مفاهيم مركزية هي من طبيعة المرحلة الراهنة، بحكم ما تحتويه من خصوصيات فريدة وفي مقدمتها النظام العالمي الجديد والكونية والعولمة، هذا فضلا عن مفاهيم أخرى كانت ولا تزال مرتبطة بقضية الحال، مثل الحداثة والعلمانية، وبين كلا الطيفين من هذه المفاهيم التي نعدّها مدخلا أساسيّا لتناول أحد موضوعات الإسلام.
الحداثة
تعد الحداثة أحد أبرز إرهاصات النهضة الغربية التي خاضت صراعا مريرا مع الموروث الديني المسيحي الأوروبي منذ العصور الوسطى، لمّا كان الصراع على أشده للقطيعة مع الموروثات التقليدية التي كبّلت العقل واستعبدت الإنسان بتعلة الدين، وكان الحاكم يستمد مشروعية حكمه من السماء. فهو من ثم حاكم بحق إلهي، وما الكنيسة ورجالاتها إلا الأداة التبريرية لهذا النمط من الحكم، الذي فرض من ثم صورة اجتماعية لا تختلف عن هذه الطبيعة السياسية؛ مثل الإقطاع و العبيد والظلم واحتكار الحياة السياسية على الخاصة.
العلمانية
أطلق مفهوم العلمانية لأول مرَّة في التاريخ الأوروبي عقب الثورة الفرنسية 1789، وتعني فصل الدين عن الدولة؛ بمعنى عدم توظيف الدين في السياسة. بل إنَّ هذه الأخيرة تكون من خلق الإنسان، وعليه ظهرت القوانين الوضعية التي عوضت القوانين السماوية، وأصبح للجماهير حق تعديلها وفق مصالحهم عبر البرلمانات المنتخبة. ويصدر كل نص قانوني بعبارة باسم الشعب، مثلما لا يحق للدولة أن تتدخل في المسألة السياسة وإكراه المواطنين على دين أو عقيدة بعينها؛ لأن ذلك يعدُّ خرقا للحريات الشخصية، وعليه، فإنَّ الدين مسألة شخصية لا يمكن التدخل فيها، ما لم تخل بالأمن العام.
فالعلمانية هي بدورها مفهوم غربي تمخَّض عن جملة الثورات الديمقراطية البرجوازية التي شهدتها أوروبا وأمريكا، فهي بذلك وردت في السياق عينه الذي ظهرت فيه الحداثة، وظلّا إلى يوم الساعة هذا، مفهومين متقاربين متلاصقين، إذا نظرنا إليهما من زاوية النظر الغربية المحضة.
الإسلام السياسي
هو كل مشروع سياسي ينخرط في العملية السياسية عبر الانتخابات أو غيرها من الطرق، مثل الثورات أو الحركات الاجتماعية أو الانقلابات؛ قصد الوصول إلى السلطة وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. أي أنه يضع برنامجه السياسي في إدارة شؤون المجتمع والتحكم في مفاصل الدولة استنادا إلى الأحكام الواردة في القرآن الكريم والشريعة. وقد ظهر هذا الخطاب السياسي كردة فعل على تنامي الحركات العلمانية في العالم، ووصولها إلى مركز الخلاقة الإسلامية في تركيا، خاصة بعد إعلان كمال أتاتورك عن حلها في 3 آذار/مارس 1924 وإعلانه الرسمي عن تركيا العلمانية التي سارت على هدي التجربة الأوروبية في العلمانية؛ أي الفصل بين الدين والدولة.
في هذا السياق، يقول الباحث سعيد عبدلي: "لعل العلمانية التركية كانت أشد تصلّبا من سابقتها الأوروبية، بحكم التدخل التعسفي في حريات الأفراد وخاصة قمع الحريات الدينية، مثلما تجلى بوضوح في إلغاء اللباس الإسلامي قسريا. فظهرت في العالم الإسلامي ـ وخاصة منه العربي كردة فعل على ذلك وسعيا إلى الحفاظ على الهوية الإسلامية وإصلاح المجتمع نحو الرقي ـ بروز أصوات تنادي بالمشاركة في العملية السياسية، وتحديدا في الانتخابات واعتماد الشريعة الإسلامية كمرجع لوضع القواعد القانونية والبرامج السياسية في إدارة شؤون المجتمع. وقد اقترن الإسلام السياسي بالمفكّر حسن البنا، الذي يعد أول منظّر لحركة الإخوان المسلمين.
العلمانية هي بدورها مفهوم غربي تمخَّض عن جملة الثورات الديمقراطية البرجوازية التي شهدتها أوروبا وأمريكا، فهي بذلك وردت في السياق عينه الذي ظهرت فيه الحداثة، وظلّا إلى يوم الساعة هذا، مفهومين متقاربين متلاصقين، إذا نظرنا إليهما من زاوية النظر الغربية المحضة.
ولكن ذلك لا ينفي ارتباطه بحركات أخرى مثل السلفية وحزب التحرير والإسلام الثوري المستنير في إيران، ولكن تأكيدنا لحركة الإخوان المسلمين؛ فلكونها الأكثر شيوعا، التي وصلت إلى السلطة في مناسبات عديدة مثل السودان وتركيا والمغرب وتونس ومصر، رغم ما تخلل هذه التجارب من تشويهات وتحريفات وأخطاء؛ منها ما هو مفروض، وما هو حيف داخلي(ص 209).
في ختام هذا الكتاب، يمكن القول بأنَّ مراجعة ما يزيد عن سبعة عقود من مرحلة ما بعد الاستقلال، كافية لمراجعة سياسات الدول الوطنية التي راهنت منذ ميلادها على تبني سياسات إصلاحية منفتحة بدرجات متفاوتة عن الحضارة الأوروبية، أي عن التجارب التحديثية والفكر والحداثة في آن. ونحن لا نروم هنا تفكيك أبعاد كل تجربة عربية أو إسلامية على حدة، خاصة أن هذه التجارب مختلفة من حيث الشكل والمضمون، وكذلك في النتائج التي آلت إليها.
ولكن نريد أن نقف عند نتيجة واضحة تشترك فيها كل هذه البلدان، وهي تخلّفها وتأخّرها الحضاري، مما جعلها من عداد البلدان المتخلّفة وازداد وضعها سوءا في زمن العولمة، حيث لا بقاء إلا للقوي الذي استثمر كل الطاقات والإمكانيات، وفي مقدمتها العبقرية الفكرية وحسن التدبير والتسيير من أجل الوصول إلى مصافي الدول المتقدمة، التي تمتلك إمكانيات التفوق. في حين لا يزال العالم العربي الإسلامي يبحث عن مخارج لأزماته الآخذة في التعاظم، مما جعلها موضوع عدة أطراف فاعلة فيه. وهو ما سنتناوله من خلال فكر الإسلام السياسي؛ باعتباره الطرف السياسي الذي عاد بشكل أكثر فاعلية في الساحة السياسية داخل المنطقة العربية وما جاورها، خاصة في إيران وتركيا.
ندرك جيدا أن التاريخ العربي إذا قرأناه وفق السياقات الحضارية ومسارات الحداثة التي هي قدر كل مجتمع أراد تحقيق النهضة الشاملة، لا يعدو أن يكون سوى مشهد من الهزائم والأنّات الأليمة. ففي تقديرنا الخاص، فإن أنظمة الحكم التي تعاقبت على المنطقة، هي سبب كل هذا الخراب الحضاري الذي نعيشه اليوم وجعلنا في أسفل السّلم العالمي، وهو حتما آخذ في التعمق، خاصة عندما نلاحظ تسارع الأحداث الكونية، حيث السّباق على أشدّه بين عمالقة العالم، في سياق مرحلة ما بعد الحداثة.
صندوق النقد الدّولي.. مخرج لأزمات الشعوب أم استدامة لها؟
ما هو سر الحضور القوي للأنظمة السلطوية؟ محاولة لفهم أشمل
الدين ورهان التأسيس للخطاب الحقوقي ومناهضة الهيمنة