التخلص من المناورة البرية
المناورة البرية هي موطن القوة الأول للجيش
الإسرائيلي، وهي التي جلبت الانتصارات المذهلة في عامي 1956 و 1967. لكن خلال حرب
لبنان 2006، أطلق حزب الله 4000 صاروخ وقذيفة على البلدات الإسرائيلية، وهو أكبر
هجوم على المراكز السكانية الإسرائيلية منذ حرب 1948، مما أسفر عن مقتل 45 مدنيا،
وإلحاق دمار هائل وأضرار اقتصادية، ودفع عشرات الآلاف إلى الفرار من منازلهم إلى
جنوب البلاد. وفي المقابل، غامر الجيش الإسرائيلي بالكاد باجتياز بضعة أميال من
الحدود خلال 34 يوما من القتال في تناقض صارخ مع غزو 1982 الذي اجتاح الجنوب بسرعة
ووصل إلى بيروت في خمسة أيام. نتيجة لذلك، ولأول مرة في تاريخ إسرائيل، انتهت
الحرب التي تورطت فيها دون انتصار إسرائيلي واضح، ونجحت منظمة شبه عسكرية تضم عدة
آلاف من المقاتلين في
مقاومة أقوى جيش في الشرق الأوسط لعدة أسابيع. ومن الصعب
المبالغة في تقدير الآثار البعيدة المدى المترتبة على هذه النتيجة.
العقلية الانهزامية
في غزة، بعد فك الارتباط، استغرق الأمر أكثر
من ثلاث سنوات من الهجمات الصاروخية المتواصلة على المراكز السكانية الإسرائيلية
قبل أن يشن الجيش على مضض حملة الرصاص المصبوب في 2008. وكانت القيادة العسكرية
حريصة جدا على تجنب عملية برية لدرجة أنه في اجتماع مجلس الوزراء الذي وافق على
العملية، خرج رئيس الأركان ورئيس المخابرات آنذاك لطمأنة الوزراء بأن حماس ليس
لديها رغبة في مواجهة كبيرة من ناحية، وتخويفهم من غزو بري من ناحية أخرى. وحذرا
من أن تدمير حماس وإعادة
احتلال غزة من شأنه أن ينشر الفوضى في جميع أنحاء القطاع،
وحصد أرواح مئات الإسرائيليين، وإثارة أعمال شغب جماعية في الضفة الغربية وبين
المواطنين العرب في إسرائيل.
بالنظر إلى هذه العقلية الانهزامية، لم يكن
من المستغرب عدم وجود خطة لتحييد أنفاق حماس في بداية عملية الجرف الصامد على
الرغم من تعريفها كتهديد استراتيجي في وقت مبكر من أواخر عام 2013. وفي أعقاب
عملية الجرف الصامد، شرع الجيش في جهد متعدد لتحييد أنفاق حماس الهجومية، بلغ
ذروته في بناء حاجز فوق وتحت الأرض على طول الحدود بين غزة وإسرائيل بتكلفة 1.1
مليار دولار.
إذا شنت هذه الدولة غزوا متزامنا من الضفة الغربية وغزة، على غرار السابع من أكتوبر، فإن جحافل المقاتلين ستكون قادرة على التجول في القدس وتل أبيب وبلدات وسط وجنوب إسرائيل. وستكون هذه وصفة مؤكدة لكارثة من شأنها أن تقزم الصراع الحالي في غزة.
ظل النفور من العمليات البرية الواسعة
النطاق راسخا. وقد تجلى في التخفيض الكبير للقوات البرية والاعتماد المستمر على
القوة الجوية، وعلى الأخص في "عقيدة الضاحية". إذن، فلا عجب أنه عندما
تلقى الجيش تعليمات من مجلس الوزراء بتدمير قدرات حماس العسكرية والسياسية، لم يكن
لديه خطة لغزو القطاع، وكان عليه أن يعدها على عجل كبير، في حالة واضحة من الأسود
التي تقودها الحمير، استعارة للتصوير البريطاني الشهير لتجارب الحرب العالمية
الأولى.
هذا النفور المتوطن من العمليات البرية
واسعة النطاق لم يكن فقط نتيجة طبيعية للنقص المطرد في المعدات وأعداد القوات
البرية، أو فلسفة "جز العشب" البديلة لسياسة النصر الحاسم؛ ولكن أيضا
للخوف المتزايد من الخسائر في ساحة المعركة التي سيطرت على نفسية هيئة الأركان
والمستويات السياسية ووسائل الإعلام والجمهور بشكل عام.
سياسة الاحتواء وجزّ العشب
منذ أواخر التسعينيات، سادت مصطلحات مثل
الاحتواء وإنهاك العدو على حساب المصطلحات التقليدية مثل النصر والردع، بالإضافة
إلى التخلي عن المبادئ الأساسية للأمن القومي الإسرائيلي مثل نقل الحرب إلى أراضي
العدو أو احتلال الأراضي، مما أدى إلى تدهور مطرد في الوضع الأمني.
ومع انتشار آلاف من مقاتلي حزب الله المسلحين
تسليحا جيدا والمتمرسين على طول الحدود المشتركة في حالة تأهب دائم لغزو شمال
إسرائيل واحتلال المجتمعات الحدودية، ومع ترسانة حزب الله من الصواريخ القادرة على
ضرب أي هدف في إسرائيل، تطور "توازن الرعب" بين إسرائيل والحزب، وسعت
الحكومات المتعاقبة والجيش، إلى بذل قصارى جهدهما لتجنب اندلاع حريق كبير،
والاستبعاد شبه الكامل للهجوم على لبنان، وحصر الجهود لإحباط الحشد العسكري لحزب
الله في الغارات الجوية على طرق إمداده في سوريا.
وقد تجلى هذا الخجل من المواجهة بشكل صارخ
في تشرين الأول/أكتوبر 2022، عندما دفعت تهديدات الحرب من قبل حزب الله، مدعومة
بإرسال ثلاثة مسيرات نحو حقل غاز في شرق المتوسط، الحكومة الإسرائيلية إلى التخلي
عن موقفها التفاوضي المستمر منذ عقد من الزمن والاستجابة لمطالب بيروت بترسيم
الحدود البحرية وملكيتها لرواسب الغاز الكبيرة الموجودة في المنطقة المتنازع
عليها. وقال رئيس الوزراء يائير لابيد: "لا تخاف إسرائيل من حزب الله؛ لكن
إذا استطعنا تجنب الحرب، فإن مهمة أي حكومة مسؤولة هي القيام بذلك". وقد أيد
الجيش هذا الرأي بشدة. في الوقت الذي تفاخر فيه متحدث باسم حزب الله بأنه
"لولا بندقية نصر الله التي وُضعت على رأس الحكومة الإسرائيلية، لما حدثت
صفقة الترسيم".
الخوف من الخسائر البشرية
سمح فك الارتباط لحماس بتحويل القطاع إلى
بؤرة مقاومة ضايقت إسرائيل لأكثر من عقدين. وأثبت خلفاء شارون أنهم مترددون في قمع
حماس ونزع سلاحها، وهذا ما عبر عنه نتنياهو في سيرته الذاتية بقوله: يتطلب تدمير
حماس إدخال قوات مشاة كبيرة إلى غزة، وهو ما قد يتسبب في مئات القتلى الإسرائيليين.
من الواضح أن نفور الجيش من العمليات البرية
والخوف المصاحب من التصعيد لا يعكس أي تصور على أنه أقوى جيش. يؤكد ذلك التهرب
المنهجي من مواجهة تهديد نظام الأنفاق التابع لحماس. وفي الأشهر التي سبقت الجرف
الصامد 2014، حجبت القيادة الأمنية معلومات حيوية عن مجلس الوزراء حول "نشاط
عدائي كبير" وشيك من حماس، على ما يبدو خوفا من أن يتم توجيههم لاستباق
العدوان الذي يلوح في الأفق.
كان هذا الخوف رمزا لعقلية المؤسسة الأمنية
خلال سنوات أوسلو بشكل عام، واستمر حتى الحرب الحالية، وتجلى في أنماط سلوكية
متزامنة ومتناقضة، مثل التخويف من التكاليف الباهظة للحرب البرية. ومن ناحية أخرى،
التقليل المستمر لتهديد حماس، والاعتقاد أنه تم القضاء عليه مع الانتهاء من الحاجز
تحت الأرض في ديسمبر 2021.
تمشيا مع هذا التفكير، قام الجيش بحل بعض
"فرق الإنذار" المدنية في المجتمعات الحدودية، المصممة للدفاع عن
سكانها. وتم تجريد أعضاء الفرق الأخرى من البنادق والمدافع الرشاشة. وعندما احتج
قادة الفرق على هذا القرار، قيل لهم: لا داعي للقلق لأن الحاجز تحت الأرض جعل
اختراقا كبيرا أمرا مستحيلا.
العمى المتعمد والغطرسة
سادت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية حالة
من "العمى المتعمد والغطرسة تتدفق من أعلى لأسفل" طبقا لوصف الكاتب،
قادت إسرائيل إلى السابع من أكتوبر. وذكر نماذج على هذه الحالة، فقال:
ـ مع عدم مبالاة رئيس الموساد بتدين حماس
وآثاره على الأمن القومي الإسرائيلي، فليس من المستغرب أن الاستخبارات العسكرية
وقيادة الجيش ككل، أساءوا تفسير العديد من الكتابات على الحائط، معتبرين أن
السنوار قد تم ردعه وليس في عجلة من أمره لتدمير إسرائيل.
ـ في يوليو 2022، قدم ضابط المخابرات في
فرقة غزة لقائد الفرقة تقريرا من أربعين صفحة عنوانه "خطة حماس للمداهمة
الكبرى"، وصف فيه غزوا متعدد الجوانب من شأنه اختراق الحاجز الأمني عبر عشرات
المواقع، فيما تم تعريفه على أنه "أخطر تهديد يواجه دفاع الجيش
الإسرائيلي". وقُدم التقرير في الشهر التالي إلى رئيس الموساد، الذي لم يعره
اهتماما كما يتضح من تنبؤه السيئ السمعة بعد بضعة أسابيع من التقرير بأن الهدوء
سيسود القطاع لخمس سنوات.
ـ الرفض المنهجي للتحذيرات المتكررة من قبل
المخابرات الميدانية، ولا سيما وحدة الاتصالات والحرب الإلكترونية الشهيرة 8200
التي جمع أدلة هائلة على أنشطة حماس غير النظامية، والتقارير التي استمرت شهورا من
قبل المجندات في مراكز المراقبة الحدودية عن أنشطة حماس المشبوهة.
ـ تخفيض القوات على طول حدود غزة بقوات
كتيبة مدرعة واحدة فقط، كان نصف قواتها في إجازة في يوم السابع من أكتوبر، جنبا
إلى جنب مع قوات المشاة المستنفدة.
ـ تهديد بعض المجندات العاملات على الحدود
بالمحاكمة العسكرية من قبل قادتهن إذا استمررن في دق ناقوس الخطر. وقد قتل معظمهن
يوم هجوم السابع من أكتوبر وأُسرت الأخريات.
يجب أن تخضع الضفة والقطاع لعملية عميقة لاجتثاث التطرف وإبعاد حماس من السلطة، واستكمال الجهود الإسرائيلية المستمرة لتدمير قبضة حماس العسكرية والمدنية على غزة، فتلك هي الخطوات الأولى في هذا الطريق الطويل والمتعرج.
ـ في أوائل
أكتوبر 2023، كانت مديرية الاستخبارات مزدهرة بأن الوضع في القطاع يتجه إلى
الهدوء، على الرغم من حركة الاتصالات غير المنتظمة لحماس و"الارتفاع
الحاد" في النشاط التدريبي لست كتائب من قوات النخبة، أي 3000-4000 مقاتل،
وهو العدد التقريبي للذين غزوا إسرائيل.
ـ نُقلت رسالة مماثلة لتقدير الموساد إلى
نتنياهو في مشاورات أمنية خاصة في 1 أكتوبر، حيث توقع قادة الجيش والشاباك تخفيف
التوترات خلال عطلة عيد العرش. ونتيجة لذلك، تم وضع الجيش في حالة تأهب منخفضة
خلال العطلة التي استمرت أسبوعا، ووافقت إدارة العمليات على مهرجان سوبرنوفا
الموسيقي في الهواء الطلق، على بعد ميلين فقط من حدود غزة، والذي كان سيصبح الموقع
الرئيسي لمن قُتلوا أو أُسروا في السابع من أكتوبر.
ـ قبل ثلاث ساعات من غزو حماس، وقبل ساعة من
المشاورة الهاتفية المصيرية بين كبار ضباط الجيش الإسرائيلي، ذكرت مذكرة للشاباك
"سلسلة من العلامات غير العادية التي تشير إلى انتشار طارئ"؛ لكنها خلصت
إلى أن "حماس ليست مهتمة بالتصعيد أو في بدء مواجهة في الوقت الحاضر".
السلطة المفرطة للمؤسسة الأمنية
موقع إسرائيل الفريد كدولة تتعرض لتهديد
أمني مستمر قد منح الجيش، والمؤسسة الأمنية بشكل عام، سلطة مفرطة في مواجهة
المستوى السياسي، لدرجة وصف الجيش الإسرائيلي بأنه جيش يمتلك دولة. ومع ذلك، فإن
حجب معلومات الأمن القومي الحيوية عن المستوى السياسي لفترة طويلة من الزمن، ناهيك
عن الفشل في تنبيهه إلى هجوم فوري محتمل، كان بمثابة انقلاب عسكري فعال تتويجا
لعصيان مدني دام عاما كاملا، تغذت عليه حملة تحريض ضخمة رفضت شرعية الحكومة وحثت
على الإطاحة بها خارج البرلمان.
استنتاج
يختم الكاتب دراسته بأهم ما يراه من نتائج
ومقترحات بعد هذا السرد التاريخي والتحليلي للصراع وما طرأ من متغيرات خطيرة
وملموسة على طرفي الصراع، خصوصا إسرائيل، فيقول:
ـ "بعد واحد وثلاثين عاما من اتفاق أوسلو،
ومقتل 4000 إسرائيلي، فقد وضح للإسرائيليين أن الدولة
الفلسطينية ستكون كيانا
معاديا ملتزما بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وستحكمها حماس على الأرجح.
ـ إذا شنت هذه الدولة غزوا متزامنا من الضفة
الغربية وغزة، على غرار السابع من أكتوبر، فإن جحافل المقاتلين ستكون قادرة على
التجول في القدس وتل أبيب وبلدات وسط وجنوب إسرائيل. وستكون هذه وصفة مؤكدة لكارثة
من شأنها أن تقزم الصراع الحالي في غزة.
ـ يجب أن تخضع الضفة والقطاع لعملية عميقة
لاجتثاث التطرف وإبعاد حماس من السلطة، واستكمال الجهود الإسرائيلية المستمرة
لتدمير قبضة حماس العسكرية والمدنية على غزة، فتلك هي الخطوات الأولى في هذا
الطريق الطويل والمتعرج.
اقرأ أيضا: تغيرات كبرى في الشخصية الإسرائيلية قادت إلى طوفان الأقصى.. دراسة جديدة (1من2)