تعرفت عليه في لندن بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 بأشهر، حيث كنا نقوم بحملة للدفاع عن المنظمات الخيرية الإسلامية التي صودرت ممتلكات العديد منها بتهمة الإرهاب. وأخبرته بمشروع عزمنا القيام به يقوم على بناء مكتب دولي للجمعيات الإنسانية والخيرية للدفاع عن هذه الجمعيات التي تقوم بعمل كبير على الصعيد الإنساني والخيري والتي صنفت اعتباطا وتعسفا كجمعيات ممولة للإرهاب. كان هادئا ورزينا ومستمعا ثم أخذ الحديث ليقول: أنت عايش في أوروبا من أكثر من عشرين سنة، بكره حيصنفوك إرهابي وإسلامي لأن الحملة على هذه الجمعيات عمياء ولا تفرق بين القمح والشعير... قلت له: ليس بإمكانهم تصنيف منظمات حقوق الإنسان العلمانية والنجدة الكاثوليكية وكاريتاس كمؤسسات متواطئة مع القاعدة.
فضحك وسألني: أنت علماني؟ قلت له: أنا أناضل من أجل مجتمع مدني قوي في البلدان العربية ودولة ديمقراطية مدنية، لست حزبيا وانتمائي الوحيد منذ 1979 لمنظمات حقوقية دولية وعربية. نظر إلي وقال: "ندعو الله لك بالتوفيق والله أنا خائف عليك".
عقدنا المؤتمر الأول للجمعيات الإنسانية والخيرية في باريس في مطلع 2003، تحت رعاية نيلسون منديلا، الذي أرسل لأسباب صحية أحد مساعديه، ولم أفاجأ بدعوة الأمن الفرنسي لي للتحقيق لأول مرة منذ وصولي للأراضي الفرنسية قبل ربع قرن في مركز بير حكيم للتحقيق، وجلس رجلان وامرأة يحققون معي عن المؤتمر وتمويله ويشرحون لي كيف أن هذا العمل يصب في خدمة الإرهاب.
كنت في زيارة إلى لندن بعدها، فاتصل بي الفقيد
إبراهيم منير ودعاني للغداء. اختار مطعما للأسماك وأثناء الطعام كان ينظر إلي وأنا آكل بيدي اليسرى. فقلت له: أنا عسراوي متعاكس، أكتب باليمنى وآكل باليسرى. فقال: كان أحسن تكتب باليسرى وتأكل باليمنى. قلت له: "أنا آكل بالملعقة ولا آكل بيدي، وبرأي الدكتور محمد هيثم الخياط، الأداة هي التي تمس الطعام وليس اليد". فأجاب: "هذه من غرائب الفتاوى"..
لم تكن ذكرى محاكمات 1965 تغيب عن ذاكرته، عند الحديث عن تاريخ الجماعة. فقد حوكم يومها مع سيد قطب ومجموعة "إحياء تنظيم الإخوان" وقضى عشر سنوات في السجن قبل مغادرة
مصر. ولكنه منذ وصوله إلى لندن، تأثر كثيرا بالعمل المدني وأهميته. وقد اتصل بي مرة ليعرض علينا فكرة حوار وطني بين المصريين في لندن. فقلت له: فكرة جيدة واللجنة العربية لحقوق الإنسان مستعدة لتنظيم الحوار ولكن دون تدخل من أي طرف. فقال لي: "أنا قرأت كتاب "تونس الغد" اللي أنت حررته وشارك فيه الشيخ راشد الغنوشي ومنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر وغيرهم، لماذا لا تقومون بنفس العمل لمصر؟
اتصلت بالدكتور حسن نافعة والدكتور نادر فرجاني وعضو مجلس الشعب محمد البلتاجي من الإخوان (في السجن الانفرادي منذ تسع سنوات). وحضرت مع منصف المرزوقي ورئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان فيوليت داغر. وكانت ندوة حوار راقية في لندن في فترة كان التشاؤم يسود الأجواء السياسية في الفضاء العربي.
شاركتُ مع منظمة العفو الدولية في بعثة مراقبة قضائية في مصر، أثناء محاكمة خيرت الشاطر وزملائه في 2008. وأمام مقر المحكمة العسكرية بالهايكستب، اقترب مني أحد عناصر أمن الدولة لإبعادي عن مدخل المحكمة بالقوة، وحال عناصر آخرون دون المحامين الذين حاولوا الدفاع عني. انهال عنصر الأمن عليّ بالضرب، في حين راقب باقي العناصر المشهد. وقعت أرضا وأراد أن يضربني بقدمه عندما وقفت سيارة المفوضية الأوروبية بالقرب منا. فتوقف عن الضرب وقال: "إما أن ترحل أو سنحملك إلى المطار"... جاء رهط من نقابة المحامين لمساعدتي وأخذوني إلى مقر النقابة. بعدها تتالت المحاكمات والأحكام، وحتى إبراهيم منير لم ينج من المحاكمة والحكم عليه بالسجن خمس سنوات غيابيا بعد أشهر.
شاركت اللجنة العربية لحقوق الإنسان في تنظيم مسيرات تضامن مع ثورة يناير 2011 في باريس، وأرسلنا بعثة تحقيق إلى مصر بعد ما سميناه تفكها "وقعة الجمال"، ثم ذهبتُ إلى مصر الجديدة باعتبارها الأقرب لدمشق، ولسهولة سفر السوريين إليها. وبعد نجاح محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية، طلبت مقابلة الأستاذ خيرت الشاطر، فلم ألقى جوابا، اتصلت بإبراهيم منير فأعطاني اسم صحفي يمكن أن ينظم اللقاء (معتقل منذ 2013). جاء إلى مقر هيئة التنسيق الوطنية في المعادي ونظر في الأثاث المتواضع حيث ينام أحيانا 11 شخصا لضعف الإمكانيات، وكونه مهندس الكتروني، أصر على مساعدتنا بجهاز كومبيوتر وسأل إن كنا بحاجة إلى فرش وبطانيات، وقال لي: "أنا خرجت من السجن بجهود رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان، ومش حانسى فضلكم علينا في أيام الشدة". أخبرته برغبتي في لقاء خيرت الشاطر فقال إن شاء الله خير. مضت أيام ولم يتصل، فاتصلت به، فقال "الأستاذ خيرت سافر لتركيا ولهذا لم اتصل". في المساء رأيت خيرت الشاطر يستقبل وفدا عربيا في مقر الحركة. فهمت أنه اعتذر. وبالفعل بعد يومين فهمت بأنه يرفض مقابلتي بسبب موقفي النقدي من المجلس الوطني السوري وعسكرة الصراع في سوريا.
والحقيقة كنت أرغب في طرح موضوعين معه: الأول يتعلق بالتحالفات في مصر، وضرورة شمول التحالفات الأطراف القومية والليبرالية أولا وليس تحالف إسلامي مغلق (إخوان ـ سلفية)، ولله والتاريخ لم تكن هذه وجهة نظرنا وحدنا، بل كانت نصيحة عدد من القيادات الإخوانية غير المصرية ومنها الشيخ راشد الغنوشي.
أثناء حصار رابعة، اتصل بي محام مصري يعيش في بريطانيا من باريس طالبا أن نلتقي وجاء إلى شقتي ـ مكتبي الصغير في مالاكوف. قال لي: أحمل رسالة لك من الأستاذ إبراهيم منير، نحن في ضائقة، وبحاجة لتدريب المحامين على الدفاع عن المعتقلين على الصعيد الداخلي والدولي. وسنغطي ما تحتاجون من تكاليف لهذه الدورات. قلت له: في المعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان نحن نقوم بتأهيل وتمكين المحامين وفق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، ولكن دوراتنا مفتوحة وليست خاصة بحزب أو حركة. يمكن للمحامين المرشحين متابعة هكذا دورات مع غيرهم من المحامين والمعهد يتكفل بالتعليم وكل محام يغطي سفره وإقامته".
قال لي: دكتور مناع، اليوم من الصعب لأسباب أمنية المشاركة مع أي محام غير موثوق، نحن نتعرض لحملات قمعية عشوائية، حتى أصدقاء الحركة يعتقلون ويحاكمون وبعضهم يحكم بالإعدام. من واجبكم أخذ هذا بعين الاعتبار. قلت له: "أنا أتابع الوضع جيدا، وأنتم بحاجة للتدريب والتمكين مع محامين غير إسلاميين، هذا يوسع أفق النشاط الحقوقي عندهم ويدربهم على التشبيك بين الحقوقيين"، قال لي: سأنقل وجهة نظرك وأعلمك بما نقرر. كانت حالة الرهاب الأمنية تحول دون تحمل أية مخاطرة ولم يحدث التدريب المشترك. وكان هذا آخر طلب من الأستاذ إبراهيم منير.
بقي أن أذكر حادثة شخصية حصلت بيننا. ففي زيارة لي إلى لندن لحلقة من برنامج "حقوق الناس"، علم بوجودي ودعاني للغداء، فذهبت، وأثناء الغداء أخرج مغلفا فيه خمسة آلاف دولار وقدمه لي قائلا: "هذا تبرع مني للجنة العربية لحقوق الإنسان". فقلت له: نحن لا نقبل أية تبرعات سياسية من أي طرف، فأجاب: "هذا تبرع من العبد الفقير المواطن العربي إلى اللجنة العربية وليس من المسؤول في حركة الإخوان، اللهم إلا إذا ماكنتش تعتبرني مواطن عربي؟".
*مفكر وحقوقي