الحركة قوام الحياة

ختمنا مقالنا السابق بالتأكيد على أن المتتالية التي بسطناها للنواميس الكونية الثلاثة، تُرسِّخ مبدأ واحدا مُشتركا في الوجود؛ وهو مبدأ الحركة بوصفها نقيضا للسكون والاستقرار، الذي يتوهَّم فيه بنو آدم نِعَما، وهو نقمة مُحقَّقة. وما ذلك إلا لأن تحصيل زاد الآخرة من الدنيا لا يكون إلا بحركة، والأداء الحتمي لثمن هذا الزاد حركة، وتقلُّب أحوالك ومكابداتك لهذا التقلُّب -جوانيّا وبرانيّا- حركة، ومقاومة روحك لتَبِعات الخُسر المحتوم في دار الابتلاء حركة. كلها حركة تبدأ من وجدانك حتى تخرج بك إلى الوجود؛ فتتحرك فيه بقدر ما تحرَّك وجدانك استجابة لمحفزاته. وعليه، كان طلبك الاستقرار البراني والسكون الكوني انتقاصا من إنسانيتك، ومخالفة لمقتضيات تكليفك، وثلمة عظيمة في إيمانك.

هذه المتتالية من النواميس الكونية مُتتالية حركية تاريخية وليست مُتتالية طوباوية ساكنة؛ نموذج مشهود لحركة الوجود الإنساني المقيَّد بالزمان والمكان، يتكرر في كل لمحة، وليست تصورا نظريّا مُفترضا، وهذا ما يُكسبها مصداقية فوق أوهام الاستقرار والسكون، المنافية للخبرة الإنسانية داخل التاريخ، والتي لا تتمكَّن من النفس إلا بهيمنة نموذج الإخلاد الحيواني إلى الأرض على وجدانها.

وإن الكافر العاقل يستطيع إدراك هيمنة هذه النواميس بمجرد أن يعي أدوار الوجود وأطواره، بل إن "تفوق" حركته على حركة ذراري المسلمين، إبَّان القرون الأخيرة؛ يعني عُمق إدراكه لهذه النواميس، وتسليمه بأن هذا الوجود المنقوص بُني على الحركة والفيض والسيلان، وأن كل سكون واستقرار فردوسي موهوم، لا يكون السعي العبثي إليه مُحتملا إلا بمناقضة هذه النواميس والخروج عليها، وهذا سيُعيده مرة أخرى إلى قرونه الوسطى المظلمة.

هذه المتتالية من النواميس الكونية مُتتالية حركية تاريخية وليست مُتتالية طوباوية ساكنة؛ نموذج مشهود لحركة الوجود الإنساني المقيَّد بالزمان والمكان، يتكرر في كل لمحة، وليست تصورا نظريّا مُفترضا، وهذا ما يُكسبها مصداقية فوق أوهام الاستقرار والسكون

بيد أن هذا الكافر يُعاني تناقُضا طبيعيّا مريرا بين ما يؤمن به من هيمنة لهذه النواميس -بحكم التجربة التاريخية وثقلها- وبين ما نضح به وعيه الاختزالي بحكم إنكاره اليوم الآخر؛ إذ أن الإنكار يجعله يسعى سعي المجنون محاولا بناء فردوس أرضي اﻵن وهنا، رغم أنه موقن باستحالته عمليّا؛ إلا أن غياب اليوم الآخر عن أفقه الإدراكي يجعله عاجزا عجزا أصيلا مُمضّا عن التعاطي مع وجوده القصير، الذي "سينتهي" بالفناء الكامل، ومن ثم يسعى للتأله، ولاختلاق آلهة شتَّى -مثل التقنية!- يرجوها أن تُعينه في مسعاه ذلك! ولعل أهم المؤشرات على عمق إدراك الكافر لعبثية هذا المسعى، أن أدبه وأفلامه السينمائية التي تسعى لبناء الطوبيا التقنية؛ تنتهي بكارثة يفنى بها الجنس البشري، على غرار قصص العهد القديم التي تسرد نماذج الإهلاك العام للأمم التي عَصَت رُسلها.

أما ذراري المسلمين، فإنهم قد غفلوا اليوم عن هذه النواميس غفلة تامة وأخلدوا إلى الأرض، فعجزوا عن الحركة عجزا مُشينا، إذ صاروا يحسبون الوجود الدنيوي القصير فردوسا برانيّا بوسعهم تحقيقه، لأن آباءهم الأولين قد بلغوا يوما من "استقرار" الحضارة المادية مبلغا يُباري الأمم الأخرى؛ فصار استمرار هذا "الاستقرار" المتوهَّم مُسلَّمة عبثية، تمكَّنت منهم بسبب ذهنية التحديث في القرن الأخير، رغم مخالفتها لعقائد الإسلام. بل إنهم يربطون هذا الفردوس بـ"تقدُّم" الإسلام، ويجعلونه مرادفا لسلامة الإيمان؛ بعد إذ هيمنت عليهم أوهام السكون، فحسبوا أن الذروة القصيرة التي بلغها الأسلاف كانت هي الغاية من التكليف، أو أنها كانت اكتمال تحقُّق الإسلام، الذي يُمكن بلوغه بغير مكابدة ما قبله من الحركة الموَّارة؛ التي غيرت وجه الأرض! وهم في ذلك يغفلون لا عن أن مسيرة آبائهم قد آلت إلى "السكون الحضاري" بعد حركة موارة فحسب، بل يجهلون أن نقطة الذروة "الساكنة" هذه كانت تعني توقُّف الحركة الدعوية وفتور دوافعها، وبدء الانهيار والانحلال الذي لم يقع أصلا إلا بتوقُّف الحركة-الدعوة، وبلوغنا نقطة "الذروة الحضارية".

ويكتمل المشهد البائس بتصورهم أن الفردوس الأرضي الموهوم هذا تمهيدٌ للفردوس الأخروي، وأن تمكُّنهم من تلفيق الأول سيُفضي بهم تلقائيّا إلى رحاب الثاني، لا أن الحركة المضنية هنا هي التي يُفترض أن تحملهم إلى فردوس الملكوت، بإذن الله تعالى وفضله وحده.

وقد كان إدراك سلفنا الصالح لهذه المعضلة سليما جليّا، إذ علم العُرفاء منهم أن النفس تتخلَّق خلقا جديدا برحمة الله ولطفه في كل طرفة عين، وإن الخلَّاق الذي أنشأها أول مرَّة لم يتركها سبحانه وتعالى هملا؛ فتحكمها رغبات بلهاء وقوانين "عمياء" -يتوهَّمها بعض المحدَثين!- فيعبثون بعقول البشر ويُدنسون طهارة الخلق. لهذا، علَّمهم الله أن التزام ذكره سبحانه والمداومة عليه -في كل آن وموطن، وبكُلِّ طريقة ممكنة- يجعلهم يُبصِرون هذا التخلُّق المتجدد في نفوسهم أولا -روحيّا وبدنيّا- فيواكب الكسب بناء الفطرة المتجدد أبدا، ويتحقَّق العبد الرباني بدوام سعيه للخضوع لربه الحق. وإن هذا المسعى الفردي الجواني، الحثيث الكثيف؛ هو وحده الذي سيقيهم أوهام الطوبيا، ويستخلصهم من عبادة الاستقرار الحضاري والسكون الكوني، رغبة في نيل ما لم يُخلَق!

كان إدراك سلفنا الصالح لهذه المعضلة سليما جليّا، إذ علم العُرفاء منهم أن النفس تتخلَّق خلقا جديدا برحمة الله ولطفه في كل طرفة عين، وإن الخلَّاق الذي أنشأها أول مرَّة لم يتركها سبحانه وتعالى هملا؛ فتحكمها رغبات بلهاء وقوانين "عمياء" -يتوهَّمها بعض المحدَثين!- فيعبثون بعقول البشر ويُدنسون طهارة الخلق

وأحسب أن أحوج ما نحن بحاجة إليه في هذا المقام، هو تجريد مُتتالية بمقتضيات النواميس الثلاثة، التي تناولناها آنفا؛ لبيان الطبيعة الحركية الفطرية لتكليف الإنسان ووجوده في الكون، والإطار النفسي والأخلاقي والعقدي لحركته من خلال الثنائيات التي يُدرك بها وجود الإله والكون والإنسان.

وأول هذه المقتضيات هو الرضا بأداء ثمن ما تحصُل عليه، رضاك بتلقي ثمن ما أصابك. وليس هذا لأن الوجود الدنيوي طوباوي يطوي إمكانا لتحقُّق الكمال البراني -بتساوي السلب والإيجاب!- وإنما لأنه وجودٌ محكوم بالنقص والعوار، دار ابتلاء؛ وإن ابتُغي من خلالها دفع الإنسان إلى مُنتهى الكمالات الجوانية، تحصيلا لما جُبِلَ فيها من إمكانات فطرية خيرة، وهذا هو جوهر اللطف الإلهي وميزانه في الخلق.

وينبني ثاني هذه المقتضيات على سابقه -الرضا بالثمن مقبوضا ومدفوعا- فبه يكون نفيا كليّا للفردوس الأرضي الذي يتوقَّف فيه التاريخ -ويمتنع تغيُّر الأحوال وتبدُّل الأطوار!- إيمانا بيوم آخر يتحقَّق بعده الفردوس الحقيقي، تصديقا بالوحي واطرادا مع تجربة التاريخ؛ تسليما بحتميَّة التقلُّب الدنيوي بين العسر واليسر.

أما ثالث المقتضيات فهو كذلك نتيجة لما سبقه وينبني عليه، وإقفالٌ لدائرة المتتالية بعد جحد الفردوس الأرضي. فإن العض على الإيمان بالنواجذ، والمداومة على تجديده بالعمل الصالح، ثم التواصي بالحق وبالصبر؛ يُبطن انصراف السالك كليّا عن الوهم، واشتغاله بالفردوس الوحيد الممكن تحقُّقه في الحياة الدنيا؛ الفردوس الجواني الذي يتحقَّق بتعمير النفس بكلمة الله وأمره، لينعكس زكاء هذه النفوس بعدها على الكون المفطور على العبودية؛ فينسجمان معا في حركتهما عروجا إلى الباري تعالى.

الحكيم هو من جعل من تجاربه وخبراته إضاءات على طريقه الشاق، أما المثخَن فيحمل الجرح تلو الجرح من كل تجربة، حتى يعجز عن الحركة ويثقُل عليه التكليف؛ فيقعُد للتسخُّط. إن الحكيم تُصيبه الجراح فيتحامل حتى لا تُعاق حركته، أما أكثر بني آدم فيختارون دور الضحية الذي يعشقونه، ويثخنون فحسب بغير حكمة ولا غاية

* * *

لقد علم القاصي والداني عجز ابن آدم عن التحكُّم فيما ينزِل به، وإن كان مجبولا قادرا على التحكُّم في رد فعله على النوازِل. لهذا؛ فإن النازِلة التي تنزِل به إما أن تُنضجه وتُصيره حكيما مؤمنا، أو تتركه مُثخنا مُتسخطا؛ فهذا راجع كليّا لرد فعله، الذي لا يتولَّد عبثا، وإنما يشكله مقدار القُرب/ البُعد عن كلمة الله؛ فبها يكون الثبات بحول الله وقوته.

إن هذه الحياة قصير أجلها محدود عمرها، والإثخان المتسخِّطُ مُعيقٌ للحركة، أما الحكمة الإيمانية فدليلك إلى خير ما فيها. وإن ساعة تعيشها بالإثخان مثلها مثل ساعة بالحكمة؛ تنتقص من هذا الأجل، وتنهش فيه؛ فإما أن تنهشه منك وأنت مُنتصب القامة سالك على هُدى من ربك، وإما أن تنهشه منك وأنت مُلقى على قارعة الطريق تنعي حظك! فإن الحكيم هو من جعل من تجاربه وخبراته إضاءات على طريقه الشاق، أما المثخَن فيحمل الجرح تلو الجرح من كل تجربة، حتى يعجز عن الحركة ويثقُل عليه التكليف؛ فيقعُد للتسخُّط. إن الحكيم تُصيبه الجراح فيتحامل حتى لا تُعاق حركته، أما أكثر بني آدم فيختارون دور الضحية الذي يعشقونه، ويثخنون فحسب بغير حكمة ولا غاية.

وربما كان للخلفية الطبقية دور في بلورة الذهنية/ النفسية الممهدة للإثخان المتسخط، الراعية له، بيد أن بني جلدتنا يغفلون عنه، وهذا ما سنجتهد لتقصيه وبسطه في مقالنا القادم، إن شاء الله تعالى.

 

twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry