قضايا وآراء

الإنسان في القرآن.. ثمرة ذكر الله في تزكية الإنسان (10)

الإنسان في القرآن

يزكِّي القرآنُ نفس الإنسان من خلال معالجة تصوُّراته الداخليَّة، فالإنسان هو ثمرة تصوراته وظنونه: "وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ".

والنفس وعاءٌ يملؤه صاحبه بما يشاء ثم يفيض وعاؤه في سعيه إن خيراً أو شرَّاً: "والله أعلم بما يوعون".

وهذه ميزةٌ فريدةٌ للدينِ، أنَّه يهتم بإصلاح باطن الإنسان ولا يقنع منه بالتظاهر الخارجيِّ، لأنَّ عماد الدين هو الصدق، ولا يقبل التظاهر والادعاء والرياء.

في منطق البشر فإنهم ينتظرون منك أن تكون لبقاً في الحديث ولا يهتمون بسريرة قلبك، لكنَّ الدين يريد أن تكون هذه اللباقة نابعة من قلبٍ لا يحمل غلّا أو غشّا: "ربنا ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا".

في منطق البشر فإنَّ من يتبرع بمليون دينارٍ خيرٌ ممن يتبرع بدينارٍ واحدٍ، فهم يُكرمون الأول ويُعلون ذكره ويتجاهلون الثاني، بينما في الدين فإنَّ الله تعالى يهتمُّ بدافع فعل الخير، وقد يؤجر المتصدق بدينارٍ ويحبط عمل المتصدق بمليون دينارٍ تبعاً لنيَّة كلِّ واحدٍ منهما: "الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ".

قضيَّة الدين الرئيسة هي إصلاح باطن الإنسان وتخليته من المعاني الخبيثة، وتحليته بالمعاني الطيِّبة، فإذا صلح باطن الإنسان ظهر أثر ذلك في قوله وفعله، وكانت أقواله وأفعاله أصيلةً غير مدَّعاة.

لذلك ينبه القرآن الإنسان إلى أنه مسؤول حتى عن خواطره الخفيَّة التي لا يطلع عليها أحدٌ، لأن تلك الخواطر هي البذور التي تؤسس مسار حياة الإنسان: "وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ".

ويحمِّل القرآن الإنسان المسؤولية عن منافذ الاتصال مع العالم من سمعٍ وبصرٍ وفؤادٍ، أن يراقبها الإنسان وألا يسمح بتسلل الشوائب منها لأنَّ تلك الشوائب تتراكم في القلب حتى تفسده: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولاً".

الذي يطلق العنان لسمعه ليستمع إلى الإفك والبهتان فإنَّه بذلك يغذي قلبه بخواطر الإفك والبهتان حتى يفسده، والذي يطلق العنان لبصره ليشاهد المفاتن فإنَّه يغذي القلب ويؤجج أمراضه حتى يفسده، والذي يطلق العنان لخواطر قلبه من سوء ظنٍّ وغلٍ وحسدٍ، ولا يجاهدها فإنَّه يقوي الخبث في نفسه.

وهذا من عمق معالجة الدين أن يبدأ بمراقبة البذور في مهدها ويحذِّر الإنسان من التساهل معها؛ فيتفاقم أمرها وتتحول إلى عادةٍ يصعب الفكاك منها.

يحث القرآن المؤمنين على ذكر الله ذكراً كثيراً، وذكر الله تعالى في القرآن هو المقصد الذي يعلو على العبادات والشعائر: "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ".

ذكر الله هو حالة الحضور والاتصال بالله، وهو خير وسيلةٍ لتزكية النفس وتخليصها من أمراضها: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ".

فالمؤمن الصادق متحرر من عقدة الخوف من المجهول لأنه آمن أنَّ الله يدبر الأمر كله، وهو متحرر من خوف نقص الرزق لأنه آمن أن الله بيده الرزق، وهو متحرر من عقدة الموت لأنه يعلم أن الموت ليس سوى لقاء الله، وهو متحررٌ من اليأس لأنه يعلم أن الله قادر دائماً على إخراجه من شدة اللحظة وأن يجعل له مخرجاً.

استشعار الإنسان أنَّ هناك قوةً قادرةً رحيمةً مهيمنةً يمده بالقدرة على تجاوز شدائد الحياةِ؛ لأنها تهون في نظره حين تقوى صلته بالقوة العليا القادرة الرحيمة.

والثمرة التي نقصدها تعطى للمؤمن بالذكر الحقيقيِّ الذي يعني استشعار حضور الله في القلب ودوام تذكره في كافة أحوال الإنسان "قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم"، أما ترديد الذكر باللسان دون حضور القلب فهذا وحده لا يكفي لجني الثمرة.

يجادل المكذِّبون بالدين أنَّ "الله "مسألةٌ ميتافيزيقية غيبية، وأننا نحن البشر ينبغي أن ننشغل بالحياة الواقعية بدل الخوض في قضايا اللاهوت، لكنَّ التصور عن "الله" تعالى في القرآن يمثل جوهر الحياة الواقعيَّة، لأنَّ القرآن يتحدث دائماً عن الله تعالى في المساحات التي تترك أثراً في تزكية نفس الإنسان، ولا يتحدث عنه من زاوية أنه قضية غيبية بعيدة عن حياتنا.

كل صفات الله تعالى التي يذكرها القرآنُ تتصل بحياة الإنسان الأرضيَّةِ، فالإيمان بالرحيم يضفي على النفس رحمةً، والإيمان بالحكيم يخلص النفس من شعور العبث والضياع، والإيمان بالرزّاق يخلص النفس من خوف انقطاع الرزق، والإيمان بالعدل يورث في النفس الثقة بانتصار العدل وعدم ضياع الحقِّ، والإيمان بالقويّ يورث في النفس العزة والقوة في مواجهة الظالمين، والإيمان بالعليم السميع البصير المحيط يورِّث في النفس الراحة أنَّ كلَّ ما نشعر به وما يختلج في صدورنا فإنَّ الله سيجعل له مخرجاً.

الإيمان الصادق أنَّ هناك إلهاً يغفر الذنوب جميعاً وأنه لا يضيع أجر المحسنين وأنه يقبل التوبة عن عباده وأنه كتب على نفسه الرحمة وأنه يعفو عن السوء؛ يرقِّق قلب المؤمن ويسكب عليه رحمانيةً وطمأنينةً، ويفتح باب الأمل دائماً ويقيه من اليأس، فإذا ضعف المؤمن وتعثر لم يتملكه اليأس، لأن اليأس يولد طاقةً سلبيةً ويؤجج الميل إلى العنف، بينما الأمل يغمر صاحبه بالطاقة الإيجابية ويسكِّن قلقه، وتفيض هذه الطاقة الرحمانية في التعامل مع الناسِ، فيحسن المؤمن إلى الناس طمعاً في أن يحسن الله إليه لأن جزاء الإحسان هو الإحسان، ويعفو ويتجاوز طمعاً في أن يعفو الله عنه ويتجاوز عنه..

لكن هناك من يجادلون في صفات "الجلال" لله في القرآن، فيقولون لماذا هذا الحضور الكثيف لآيات القوة والقهر والعزة والعذاب في القرآن؟

صفات الجلال تملأ القلب رهبةً وخشيةً أمامَ هذا الإله العظيم المحيط بكلِّ شيءٍ: "وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ".

فهل يحتاج الإنسان إلى هذه الرهبة في علاقته بالله؟ هناك من يقول إنه يريد الإيمان بإله الحب فقط وأن الله محبة فما الداعي إلى الرهبة والخشية؟

الإنسان مفطور على الخضوع للجلال والقوة، ونرى تجليات هذه الفطرة الإنسانية في إعجاب الناس بمظاهر القوة والعزة في حياة البشر، فينجذبون إلى القويِّ لقوَّته وهيبته، ومشهد الجبل الشاهق أو البحر الهائج يلقي في الناس رهبةً لجلاله..

يعالج القرآن هذه الفطرة الإنسانية في الحاجة إلى الجلال والعظمة والهيبة، لكنَّه يوجهها إلى المصدر الحقيقيِّ للجلال والهيبة.

فالذين يكفرون بالله تعالى زعماً منهم أنهم لا يريدون علاقةً قائمةً على القوة والترهيب، فإنهم يقعون في الخضوع إلى رهبة المخلوقات.

الإيمان بصفات الجلال الإلهية يعالج ميلاً إنسانيّا طبيعياً للخضوع إلى مظاهر القوة والهيبة، لكنَّ القرآن يوجه هذا الميل إلى القوة المطلقة التي خلقت السماوات والأرض والجبال ومن بيده مقاليد كلِّ شيءٍ.

هذا التوجيه إلى القوة العليا يحرر الإنسان من أغلال الخوف والخضوع للمخلوقات الدنيا، لأنَّ المؤمن يعلم يقيناً أن الله وحده هو الذي يملك الضر والنفع له، وأن كل ما يكبر في صدره من مظاهر القوة فهو تحت سلطان الله الذي يملك أن يتصل به مباشرةً فيستمد منه العون والمدد: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً".

فإذا حدثته نفسه بالتذلل لمتجبرٍ في الأرض يملك القوة والسلطان ذكره القرآن بضعف هذا المخلوق ونقصه: "إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ".

وبذلك فإن امتثال الإنسان العبودية للخالق الأعلى هو جوهر الحرية من كلِّ المخلوقات.

 

twitter.com/aburtema