كان أستاذنا
المرحوم الدكتور حامد عبد الله ربيع يدرسنا مادة
الإعلام غير مستقلة عن مادتين؛
مادة الاتصال ومادة
الرأي العام. وكان المغزى الذي تعرفنا عليه بعد ذلك؛ معنى
المنظومة التي يريد أستاذنا أن يلفتنا إليه، فإن الجمع بين هذا المثلث يعني
الأهداف الناظمة بين المجالات الثلاثة والتي تربط بين الوظيفة الإعلامية وبين
فاعلية العملية الاتصالية، وما يمكن أن ينتج من هذا وذاك على الرأي العام ومحصلة
تشكيله؛ إن وعيا صادقا أو تمريرا للوعي الزائف إلى عقول الناس أو بيانا وتنويرا أو
تجهيلا وتعمية وتزويرا.
مؤسسات الإعلام
لها نصيب من اسمها، أي ضرورة أن تقوم بالإعلام بالخبر والحادثات بصدق، فيكون
الإعلام صحيحا صادقا مؤثرا في توعية الناس وتنوير عقولهم.. أما أن يتحول الإعلام إلى إعلان فهذا ليس من وظائفه.. وأن يتحول إلى كذب وافتراء فيكون أهم أهدافه تقبيح
الحسن وتحسين القبيح.. وقيامه بكل ما من شأنه تزييف الوعي ضمن عمليات غسيل المخ
الجماعي المقصود.. وعمليات التغييم والتغرير والتزوير.. فإن هذا على الضد من وظائفه
وأدواره.. حينما يتحول إلى بوق للحاكم المستبد يردد أكاذيبه ويتبنى كل مسالك خطابه
المزور.
يتحول الإعلام إلى إعلان فهذا ليس من وظائفه.. وأن يتحول إلى كذب وافتراء فيكون أهم أهدافه تقبيح الحسن وتحسين القبيح.. وقيامه بكل ما من شأنه تزييف الوعي ضمن عمليات غسيل المخ الجماعي المقصود.. وعمليات التغييم والتغرير والتزوير.. فإن هذا على الضد من وظائفه وأدواره
قلّما تجد أحدهم في الوقت الراهن يتذكر أو بمعنى أدق يستدعي كتاب
"المتلاعبون بالعقول" للكاتب الأمريكي هربرت أ. شيللر، وترجمة عبد
السلام رضوان، والصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويتي نهاية
القرن الماضي. وقد انشغل بمناقشة
التضليل الإعلامي، خاصة عندما يعمد مديرو أجهزة
الإعلام إلى طرح أفكار وتوجهات لا تتطابق مع حقائق الوجود الاجتماعي، فإنهم
يتحولون إلى سائسي عقول ويمارسون التضليل والتزييف، مؤكدا أن تضليل العقول
بالتمويه عليها أو التلاعب بها أداة قهر تستخدم لتطويع الجماهير.
ورغم خطورة هذا الكلام، فإن ما يحدث في
مصر في الوقت الراهن تجاوز ذلك
بكثير، فلم تعد وظيفة الإعلام التضليل أو التزييف أو التلاعب، وإنما أصبحت وظيفته
الضد لكل ما يمكن أن يقوم به، ولم تعد له أي وظيفة لها علاقة بالناس لا إخبارا ولا
تزييفا، فهو لم يعد موجودا للقيام بأي منها، والموجود منه يقوم بدور خطير يتمثل في
تمرير ما تقوم به السلطة فقط والتمهيد لسياساتها أو المجحفة وتبريرها لاحقا. كما
أن السلطة الانقلابية نجحت في قتل التنوع والقضاء عليه، ولم يعد مفاجأة أن تجد
المانشيت اليومي في كل الصحف والقنوات بل وحتى التقارير والأخبار الداخلية كما هي
بدون أي تغيير أو تعديل، ولعل تقرير "فوائد أرجل الدجاج" دليل على ذلك.
ما يحدث في مصر في الوقت الراهن تجاوز ذلك بكثير، فلم تعد وظيفة الإعلام التضليل أو التزييف أو التلاعب، وإنما أصبحت وظيفته الضد لكل ما يمكن أن يقوم به، ولم تعد له أي وظيفة لها علاقة بالناس لا إخبارا ولا تزييفا، فهو لم يعد موجودا للقيام بأي منها، والموجود منه يقوم بدور خطير يتمثل في تمرير ما تقوم به السلطة
لم تصل السلطة الانقلابية إلى هذا المستوى من فراغ، ولكن تم ذلك من خلال
سياسة مخططة كان أبرزها الاستيلاء على منصب وزارة الإعلام بإقالة (استقالة) وزير
الإعلام دون الاهتمام بتعيين خلف له، على اعتبار أن هذا الأمر لا يحتاج إلى من
يديره، فالملف بالأساس يدار من جهاز المخابرات العامة. وكانت الوزارة قد ألغيت
اعتبارا من حزيران/ يونيو 2014 وحتى كانون الأول/ ديسمبر 2019، حيث تولى أسامة
هيكل منصب وزير الإعلام في 22 كانون الأول/ ديسمبر 2019، ثم تقدم باستقالته أو
بشكل صحيح أجبر على الاستقالة في 25 نيسان/ أبريل 2021م.
وبشكل عام فإن الإعلام في عهد الانقلاب لا يخرج عن تعليمات جهاز المخابرات
الذي يرسل الأخبار والتقارير والمانشيتات وموضوعات الأسئلة إلى وسائل الإعلام، ولا
يجرؤ أي منها على مخالفة ذلك، بل إنه وصل الأمر ببعضهم، تحريا للالتزام بما يرسل
إليه، بقراءة كل ما وصله حتى تلك الجملة المرفقة بالمادة المرسلة "مرسل من
جهاز السامسونج".
كما عمد النظام إلى شراء معظم وسائل الإعلام، ومن لم تقبل البيع قبلت بتبني
سياسة النظام والالتزام بسياسته وخطه مثلما الأمر في وسائل الإعلام التابعة له،
خاصة أنه لا يمكن العمل في مصر إلا من خلال ذلك، فمن يخرج عن سيطرة النظام
المباشرة يتعرض بشكل شبه يومي لملاحقات قضائية وشرطية، مع العلم أنه بالأساس أصبح تحت
الحجب، وقد اتسعت هذه القائمة لتضم أكثر من 500 موقع إعلامي وحقوقي في مصر، أجبر
بعضها على التوقف، والبعض الآخر يعمل في ظروف بالغة السوء في ظل الأزمات التي تتعرض
لها هذه المواقع.
في ظل هذه البيئة والأجواء لا نستغرب أن نجد أن موقع مدى مصر يتعرض للتهديد
شبه الدائم والمداهمات، ويتعرض منتسبوه للملاحقات القضائية المستمرة، وكذلك موقع
المنصة الذي يعمل في ظروف مشابهة. في الوقت نفسه لا يُسمح للصحف التي تخضع لسيطرة
النظام بهامش تحرك ولو بسيط، وليس أدل على ذلك من حذف حوار صحيفة المصري اليوم مع
الفريق مهاب مميش، مستشار رئيس الجمهورية لمشروعات محور قناة السويس والموانئ
البحرية منذ آب/ أغسطس 2019، وقبلها كان يتولى منصب رئيس هيئة قناة السويس لما
يزيد عن سبع سنوات، وعلى الرغم من أن حواره بشأن قانون صندوق قناة السويس لم يهاجم
النظام، ولكنه أكد أنه يثق في الرئيس وأنه لن يقبل بمثل هذا القانون. فقد حذف
الحوار بعد بضع ساعات، وهكذا يتم التعامل مع رجال السلطة المقربين فما بال التعامل
مع الآخرين.
هكذا تتضح وظيفة الضد التي يقوم بها الإعلام في ظل نظام الثالث من تموز/
يوليو، فلم يعد هناك أي مستوى مهني أو احترافي تقوم به هذه الوسائل، حتى ذلك الدور
الذي كانت تلعبه في زمن عبد الناصر أو السادات أو مبارك لم يعد هو الدور الذي تقوم
به الآن، فما يوجد لا يصل إلى مستوى من ذلك. فقد نجد وسائل الإعلام تتبنى رواية أن
القوات المسلحة المصرية أسرت قائد الأسطول السادس الأمريكي، أو أن يتحدث أحد
الإعلاميين ويطالب الناس بالتخلص من الدولار الذي لديهم لأنه ستنخفض قيمته وذلك
على غير الحقيقة.
وفي الوقت نفسه يستمر هؤلاء في العمل دون أدنى شعور بأي شيء يخص الوطن
والمواطنة، فأهم ما يشغلهم هو الانقلاب ورئيسه. حتى أن ذلك الذي خدع المصريين فيما
يتعلق بالدولار استمر واقفا للاستماع لمداخلة رئيس الانقلاب لما يقرب من 80 دقيقة،
وعندما أراد أن يشرح كلام السيسي قاطعه الأخير بحدة "لا لا ما تعرفش، أنا كنت
مدير الاستخبارات، ومسؤول عن الأجهزة الأمنية الفترة دي كلها، وعارف كويس الناس
كانت بتعمل إيه.. هه". فما كان منه إلا أن علق على هذه الملاحظة الجوهرية
بقوله: "عشان كدا أنا متأكد يا فندم".
هل هذا مجرد
اختطاف أم أن الأمر أبعد من ذلك؟ الأمر المؤكد أن الإعلام في دولة الضد لا يمكنه
أن يتفهم أصول الوظيفة الإعلامية وارتباطها بالمهنية والمصداقية والحيادية؛ ولا
يمكنه أن يدرك مغزى القدرات والفاعليات الاتصالية التي تحقق التأثير الواجب
بالتقدير الواجب للمتلقي وعدم الاستخفاف به وجعله مادة للتلاعب أو التضليل، وكذلك
لا يمكنه أن يقدر الرأي العام النوعي والجماهيري حق قدره.
إعلام الضد هو اختطاف للوظيفة وإحلال لمناقضها؛ وهيمنة على الأجهزة والمؤسسات والأوعية المختلفة؛ وإملاء لخطاب شبه يومي يعبر عن تبعية قميئة مشبوهة تدير ما يسمى تندرا بإعلام السامسونج؛ وافتعال وتقديم أحداث لإلهاء الناس وصرفهم عما يجب الانتباه إليه
إعلام الضد هو اختطاف
للوظيفة وإحلال لمناقضها؛ وهيمنة على الأجهزة والمؤسسات والأوعية المختلفة؛ وإملاء
لخطاب شبه يومي يعبر عن تبعية قميئة مشبوهة تدير ما يسمى تندرا بإعلام السامسونج؛
وافتعال وتقديم أحداث لإلهاء الناس وصرفهم عما يجب الانتباه إليه.. وفقا لسياسة
"بص العصفورة"؛ واتباع جملة من سياسات التخويف والترويع.. لمنع أي رأي
يشكل خروجا على رأي السلطة.. وتكميم الأفواه حتى على وسائل التواصل الاجتماعي.
هذا الإعلام في
كل صوره ومختلف أوعيته يقوم بوظيفة دنيئة باعتباره كلاب حراسة للنظام في مهاجمة كل
من يتصورهم أنهم من مخالفيه؛ وحملة مباخر ضمن قيامه بحملات النفاق التي لا تنقطع
لمنظومة المستبد والاستبداد؛ والطبالون الجاهزون وماسحو أحذية النظام القائمون بحملات
تلميع الإنجازات الزائفة وتبرير الإخفاقات الكبرى وصنوف الفشل الفادحة والواضحة
والفاضحة، وهو في كل تلك الأحوال يهدف إلى ضمان تكريس سياسات تشكيل الرأي العام
وفق ما تراه السلطة المستبدة وتمرير كل سياساتها الفاشلة والفاسدة والفاشية.
twitter.com/Saif_abdelfatah