لم يشكل لقاء مدير مكتب الأمن الوطني في
النظام السوري اللواء علي مملوك ومدير المخابرات التركية حقان فيدان في موسكو قبل
عامين أي تطور على صعيد العلاقة بين أنقرة ودمشق، فالعلاقات واللقاءات الأمنية
عادة ما تكون منفصلة عن
العلاقات السياسية والعسكرية.
هذا ما حدث ويحدث مع كثير من الدول ومنها
النظام السوري الذي ظل على علاقة أمنية مع الأردن منذ اندلاع الثورة السورية، وما
حدث أيضا بين دمشق وواشنطن في أكثر من مناسبة.
ليست العلاقات الأمنية التي تفرضها مصالح
الطرفين المتخاصمين مؤشرا على طبيعة العلاقة بينهما.
لكن أن يحدث لقاء بين وزيري الدفاع التركي
خلوصي أكار ونظيره السوري علي محمود عباس في موسكو بحضور وزير الدفاع الروسي سيرغي
شويغو، فهذا أمر مختلف، ومؤشر على جدية تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في
أكثر من مناسبة في تطوير العلاقة مع النظام السوري، لمرحلة تصل إلى إجراء لقاء قمة
بين أردوغان والأسد.
التحول التركي
أجرت
تركيا في
سوريا تحولان كبيران في مواقفها:
التحول الأول جرى عام 2016 حين أجرت تركيا
مع روسيا تفاهما عسكريا يقضي بإيقاف الدعم التركي لفصائل الثورة في مدينة حلب بما
يؤدي إلى سيطرة النظام على المدينة، مقابل السماح لتركيا بشن عملية عسكرية (درع
الفرات) للسيطرة على بقعة جغرافية في الشمال الغربي من سوريا.
كان المحور الرئيسي في الانعطافة التركية
آنذاك، هو التخفيف من الخطر المتصاعد للفصائل الكردية العسكرية المتحالفة مع حزب
"العمال الكردستاني" المعادي لأنقرة، والمدعومة من الولايات المتحدة،
بعدما نجحت في السيطرة على عدة مدن من تنظيم "داعش" وفي مقدمتهم مدينة
عين العرب ـ كوباني.
والتحول التركي الثاني حدث قبل أشهر مع
إعلان المسؤولين الأتراك، بما فيهم الرئيس التركي نفسه، نيته الانفتاح على النظام
السوري وإعادة ترتيب العلاقة بين الطرفين.
على خلاف التحول الأول، لم تظهر معطيات
مادية ملموسة توضح أسباب التحول التركي تجاه النظام السوري، وإن كانت المعطيات
التركية الداخلية هي الأكثر تأثيرا على الموقف التركي الجديد مع اقتراب موعد
الانتخابات الرئاسية في تركيا، وخشية أردوغان وحزب "العدالة والتنمية"
من خسارتها، مع الحصول على تنازلات ودعم روسي في أكثر من ملف: الأوكراني،
اليوناني، وحتى السوري.
يسعى أردوغان إلى ضمان الصوت العلوي التركي
في الانتخابات المقبلة، وسحب البساط من المعارضة التي وضعت مسألة اللاجئين
السوريين محور أجندتها الانتخابية.
مستقبل العلاقة التركية السورية
هل يشكل اللقاء بين وزيري الدفاع التركي
والسوري الانعطافة الجدية نحو طي صفحة الماضي وفتح صفحة سياسية واقتصادية وعسكرية
بينهما؟
تشير المعطيات الاستراتيجية والميدانية
والتصريحات السياسية لكلا الطرفين إلى أن الطريق ما يزال طويلا لإحداث تغيرات
جذرية في العلاقة بين الجانبين، لأسباب عديدة بسب الصعوبات القائمة على الأرض من
جهة، وتشابكات المصالح الإقليمية والدولية لتركيا من جهة أخرى.
في الظاهرة، طالب النظام السوري بجدول زمني
للانسحاب التركي من الشمال السوري وتسليم مناطق سيطرته له، مع وقف دعم فصائل
المعارضة، والقيام بإجراءات عملية لمواجه العقوبات الغربية، وإعادة العلاقات
الدبلوماسية، في حين طالبت تركيا بتعاون النظام ضد وحدات "حماية الشعب"
الكردي وحزب "العمال الكردستاني"، وإنشاء منطقة أمنية منهما بعمق يتجاوز
الثلاثين كيلومترا، لتكون مناطق آمنة ومستقرة للاجئين من اجل إعادة عدد كبير من
السوريين المقيمين في تكريا إلى هذه المناطق بشكل نهائي، وهذه هي الورقة التي
يلعبها الرئيس التركي لسحب البساط من المعارضة التركية، مع ضرورة قيام النظام
بالتجاوب الأمم المتحدة للوصول إلى حل سياسي وفق القرار الدولي 2254.
ثمة مطلب لدى كل طرف لا يستطيع الطرف الآخر
تحقيقه، وهما كافيان لجعل العلاقة بينهما في حالة ستاتيكو لأجل غير مسمى.
المطلب السوري من تركيا بالانسحاب من الشمال
السوري، طلب مستحيل التحقق وفق المعطيات القائمة والمستمرة لسنوات عدة.
لن تستطيع تركيا الانسحاب من الشمال السوري على الإطلاق قبل حصول تحول سياسي كبير في سوريا، لأن منطقة الشمال السوري هي التي تسمح لتركيا، ليس بحماية أمنها القومي فقط، بل والأهم بجعلها لاعبا استراتيجيا في الملف السوري وتأثيراته الإقليمية.
قدمت تركيا ثمنا كبيرا للوصول إلى المرحلة
التي تحكم فيها سيطرتها العسكرية على الشمال السوري، فقد خاضت صراعا سياسيا مع
الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وقدمت تنازلات لروسيا في أكثر من محل،
وتكلفت خسائر في العتاد والأرواح.
لن تستطيع تركيا الانسحاب من الشمال السوري
على الإطلاق قبل حصول تحول سياسي كبير في سوريا، لأن منطقة الشمال السوري هي
التي تسمح لتركيا، ليس بحماية أمنها القومي فقط، بل والأهم بجعلها لاعبا
استراتيجيا في الملف السوري وتأثيراته الإقليمية.
إن خسارة الشمال السوري، ستعيد تركيا إلى
المربع الأول على الصعيد الاستراتيجي، وهذا أمر مستحيل.
بالمقابل، لن يُقدم النظام السوري على تقديم
أية تنازلات وخطوات سياسية جدية، فهذا أمر مفروغ منه، وقد استخدم كل قوته وعلاقاته
الإقليمية والدولية لتغيير المسار السياسي الذي حدده القرار الدولي المرجعي 2254.
إن الوقوف على تصريحات وزير الخارجية التركي
جاويش أوغلو غداة لقاء وزيري الدفاع التركي والسوري، تشير إلى أن المسار السياسي
والعسكري بين الجانبين ما يزال طويلا، حتى وإن حدث لقاء بين الأسد وأردوغان، حين
قال " إن تركيا تؤكد مرارا عزمها نقل السيطرة في مناطق وجودها حاليا، إلى
سوريا حال تحقق الاستقرار السياسي، وعودة الأمور إلى طبيعتها في البلاد".
لقد ربط الوزير التركي الانسحاب التركي من
الشمال السوري بالحل السياسي النهائي في سوريا، وهو بالمناسبة موقف قديم لتركيا،
وإن كان بخطاب سياسي مختلف، حين كانت أنقرة تقول دائما إنها تحترم وحدة الأراضي
السورية وسيادتها.
من الواضح أن الخطوات التركية تجاه النظام
السوري تمليها معطيات تكتيكية (الانتخابات) وليس معطيات استراتيجية، وفي هذا لا
تملك أنقرة ما تقدمه عمليا للنظام السوري، ولا يمتلك الأخير ما يقدمه لأنقرة.
*كاتب سوري