المتتبع لمسار
العلاقات الجزائرية الفرنسية قبل ثلاث سنوات من الآن، يلاحظ حجم ونوع التغير الذي حدث في العلاقات بين البلدين اللذين يربطهما التاريخ الأليم، ولكن أيضا تربطهما علاقات الجغرافيا والإرث الاستعماري من جالية واتفاقيات الدولتين للتبادل والتعاون.
غير أن هذه العلاقات، وإن بدت في تحسن مستمر بعد شبه إعادة محول السرعة إلى النقطة الميتة، وكبح الفرامل بما يقترب من التوقف، إلا أن هذا التحسن الملحوظ، لا يمكن أن يكون بدون عوائق ولا ضغوط على دواسات المكابح وعازل المحرك، كون العلاقات بين البلدين لن تصل إلى حد التطبيع التام قبل حل جميع الخلافات بين البلدين، وهي شائكة وكثيرة ومتنوعة ومانعة أيضا: فالتراكم التاريخي للإرث الاستعماري الفرنسي في الجزائر خلال 132 سنة، وما نجم عنه من إبادات جماعية ومجازر إنسانية ونهب وتجارب نووية وتلويث للبيئة وتدميرها وتدمير للإنسان الجزائري عبر القوانين الاستعمارية التي مست دينه وعرضه وأرضه وأملاكه وثقافته، يقابله في الضفة الأخرى من ثقافة المحتل، الادِّعاء بأن
فرنسا هي من حضّرت المجتمع “البربري” وأخرجته من “الظلمات إلى النور” عبر التمدين وتطوير الزراعة والصناعة والتجارة والتعليم والثقافة والعمران، وأنتجت المثقفين والمبدعين والعلماء والأدباء، غير أن هذا الادِّعاء له ما يدحضه من الطرف الآخر، على أساس أن العكس حصل تماما: فالبلد لم يكن يعاني قبل الاحتلال من الأمية كما كانت فرنسا تعاني منه، ولم يكن يعاني من مشكل زراعي ولا حِرفي خلال الوجود التركي، حتى ولو كان يعاني من تجاوزات الإدارة البايلكية في نظام الضرائب الشرعية وغير الشرعية وغيرها من الممارسات الإدارية التي نجدها في أي بلد مستقل. فضلا عن ذلك، لا أحد طلب من فرنسا أن تتدخل وتحتل البلد لتحميه أو لتحضّره، وعلى العكس من هذا تماما، جاء الاحتلال مدمرا غير إنساني على الإطلاق، أتى على الأخضر واليابس ونهب الخزانة وأحرق المحاصيل خلال المقاومات الشعبية واقترف أعظم الآثام بحقّ شعب أعزل لا مطلب له إلا العدالة والحرية واحترام عقيدته ودينه وثقافته وانتمائه وأرضه وعرضه. وكان هذا كبيرا على المحتل العسكري، ثم على المستعمِر المدني الفرنسي الذي نكّل بكل الحقوق وحارب كل مقاوم بشتى أنواع الإبادة والتشريد والقتل وسفك الدماء والنفي والسجن والاعتقال والتعذيب.
لهذا، فمسألة طلب الصفح، والاعتذار، والتعويض، لن يكون اليوم أو غدا، على اعتبار أن هذا المطلب سيتحقَّق لاحقا مع الجيل القادم وليس اليوم: فالمسألة ليست مسألة رغبة رئيس أو بلد أو قيادة بلدين، المسألة مرتبطة بجروح وندوب تاريخية مرتبطة بوجود جيل الثورة وجيل الاحتلال، اللذين لا يمكنهما نسيان ماضيهما: فالجزائر اليوم بجيلها الثاني لا يمكنها إلا أن تطالب بالاعتذار ورد الاعتبار لها عن هذه المعاناة التي ارتكبها الاحتلال في المدن والأرياف والصحراء، بل تصر على هذا الاعتراف الذي يقابله التعويض المادي والمعنوي. في المقابل، النخب الحاكمة في فرنسا، غير منسجمة تجاه المسألة الجزائرية وتجاه هذه القضية بالذات: فلا يزال اليمين والمعمرون وأبناؤهم وأحفادهم وأنصارهم حتى من الشباب، يرفضون تقديم الاعتذار فضلا عن التعويض، لأن ذلك يعتبرونه هزيمة ثانية أكثر من هزيمة 5 جويلية 62، وأكثر إيلاما، لأن ذلك يعني محو كل تاريخ فرنسا الاستعماري في كل القارات، والاعتراف بجرائمها الإنسانية والحربية والتعويض عنها اليوم شبه خيالي ومرفوض لفظاعته وفداحته وغلائه المادي والمعنوي.
لهذا، فإن مسألة الذاكرة، هي مسألة وقت، لكن الاعتراف قائمٌ وقادم، على رأي فيلم “الرسالة”: “اليوم وغدا يا هند”..
(الشروق الجزائرية)