تعهدت
الحكومة المصرية بالقضاء على "السوق السوداء" للعملة الأجنبية بعد نحو عام من ظهورها مجددا؛ بسبب الحرب الروسية الأوكرانية التي ساهمت في نقص
الدولار وزيادة فاتورة استيراد السلع الأساسية والاستراتيجية، إضافة إلى التزامات مصر الخارجية وعجز الحساب التجاري.
واستحوذت
السوق الموازية على تعاملات المصريين منذ آذار/ مارس الماضي بعد أن تخلى البنك المركزي عن سياسة "التعويم المدار" ودعم الجنيه من خلال توفير الدولار للبنوك والمستوردين بسعر 15.7 جنيه ما أدى إلى حدوث اختلال في حجم الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية.
وهوى الجنيه 15% أمام الدولار وفشلت كل جهود الحكومة في جذب الدولارات إلى القنوات المصرفية بالسعر الرسمي المعلن البالغ 18.40 جنيه، وانتعشت السوق الموازية مع زيادة الطلب على الدولار وشح المعروض وتفاقم العجز التجاري، وانخراط الحكومة المصرية في مفاوضات شاقة مع صندوق النقد لتوفير حزمة إنقاذ رابعة كانت بمثابة طوق النجاة.
وخسرت الحكومة المصرية جميع رهاناتها على جذب أموال المستثمرين في الخارج مجددا بعد أن هرب ما قيمته 22 مليار دولار بحسب المسؤولين المصريين رغم خفض العملة المحلية، كما أخفقت في عودة تغيير واستبدال العملة من البنوك المحلية مع اتساع الفرق في السعر إلى أكثر من ما بين 15% و30% في بعض الفترات المضطربة.
وفي كل مرة كان البنك المركزي يقوم بخفض الجنيه إلى مستويات جديدة بناء على اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على حزمة تمويل جديدة تبلغ 3 مليارات دولار لمدة 46 شهرا، واعتماد سعر صرف مرن للجنيه أمام الدولار كان السوق الموازي يقفز بعيدا عن أسعار المركزي المصري.
خطة حكومية لسحق الجنيه
ويقول مراقبون ومحللون لـ"عربي21" إن الحكومة المصرية تناست أن جزءا كبيرا من أزمة الدولار يكمن في نقصه وليس المضاربة عليه حيث يوجد أكثر من سوق موازي للذهب والسيارات والمستوردين وتحويلات المصريين من الخارج.
واضطر المركزي المصري اللجوء إلى خفض الجنيه إلى 19.7 جنيه ثم 23 جنيها ثم 27 جنيها ثم قرر ترك الجنيه يهوي إلى 32 جنيها وبذلك انخفض الجنيه في الفترة ما بين 3 كانون الثاني/ يناير و 11 كانون الثاني/ يناير الجاري أكثر من 30%.
وأيد رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، إجراءات البنك المركزي باعتماد سعر صرف مرن للجنيه، خلال الأيام القليلة الماضية، قائلا: إنه يحظى بدعم وتنسيق كامل من جهة الحكومة، لضبط السياسة النقدية، وعودة التوازن لسوق صرف العملة الأجنبية.
وتعهد مدبولي، الأسبوع الماضي، بالقضاء على السوق الموازي خلال الفترة المقبلة، مؤكدا أنه لا يمكن الحديث عن استثمار وتنمية وتوجد سوق موازية لسعر الصرف، وبالتالي كان لازماً وقف هذه التصرفات غير الصحيحة، وصولاً للقضاء على هذه الظاهرة.
الدولرة والضوء الأخضر من الحكومة
وأشار متعاملون في السوق الموازي تحدثوا لـ"عربي21" إلى أن "الدولار لامس حاجز الـ 40 جنيها وقاموا بالبيع والشراء عند مستوى 38 جنيها قبل أن يقوم المركزي بخفض الجنيه إلى خفض الجنيه إلى 32 جنيها في محاولة للاقتراب من السوق الموازي ومحاصرته وهو ما أدى إلى حدوث ارتباك في السوق السوداء لحين اتضاح الرؤية".
وأكد أحدهم "لا نستبعد انخراط جهات بالدولة في الاستفادة من انخفاض الجنيه وجمع الدولار بأسعار زهيدة منذ آذار/ مارس الماضي؛ لأن كميات الشراء كانت طوال الشهور الماضية كبيرة جدا ولا تتوقف عمليات البيع والشراء وكانت تجري في وضح النهار دون تدخل أو مطاردة".
ويضيف أحدهم "كان الضوء الأخضر من الحكومة واضحا للجميع ما يؤكد أن هناك جهات ورجال أعمال وقيادات كانوا يجمعون عبر سماسرة كبار وصغار العملات الأجنبية بأي سعر لأن كان لديهم معلومات تؤكد قيام البنك المركزي بخفض الجنيه إلى أكثر من 30 جنيها بالتالي فرحلة الشراء امتدت من 16 جنيها إلى 30 جنيها كان مربحة للغاية".
وكشف رئيس الوزراء أن الحكومة المصرية لديها خطة لتدبير الموارد الدولارية في العام المقبل، دون الكشف عن تفاصيل تلك الخطة، واكتفى بالإشارة إلى الإفراج الجمركي عن بضائع في الموانئ بقيمة 4.8 مليار دولار في الفترة من 14 حتى 17 كانون الثاني/ يناير الجاري، ولا تزال هناك بضائع بقيمة 5.3 مليار دولار بانتظار الإفراج عنها.
توقعات بجولة صعود للدولار
ويقول أحد تجار الذهب ويدعى جورج كمال بحي العجوز بالجيزة "هدوء الأسواق لا يعني استقرارها سواء في الذهب أو العملة لأننا اعتدنا أن يسبق كل عاصفة هدوء، وبعد كل خفض يقوم به البنك المركزي ثم ما تلبث الأسعار أن ترتفع مجددا ويدب النشاط في السوق السوداء وتقفز أسعار الذهب، هناك توقعات قوية بأن يواصل الدولار الصعود".
وأوضح لــ"عربي21": "نحن كتجار ذهب لا نقر بالسعر الرسمي لأننا لا نستطيع الحصول عليه بهذا السعر وبالتالي نشتري الذهب الخام من الخارج من خلال مستوردين يقومون بدورهم بجمع الدولار بأسعار أعلى من سعر البنك وهو الآن يتجاوز 33 جنيها، عندما يتوفر الدولار سيتوقف السوق الموازي، هذا السوق لا يظهر وحده أو من تلقاء نفسه إنما بفعل فاعل أي سياسات خاطئة".
وكان تقرير صادر عن بنك "إتش إس بي سي" (HSBC) قال إن تغيرات أسعار صرف العملة المحلية في السوق المصرية قد تنتهي عند بلوغ الدولار مستوى 30-35 جنيها على المدى القصير، مشيرا إلى أن هذا التراجع في سعر صرف الجنيه أمام الدولار قد ترافقه زيادات إضافية على أسعار الفائدة، خاصة مع وصول العائد على شهادات الادخار 25%.
واستبعد تاجر سيارات جديدة في ذات الحي يدعى عمر كار أن يعود الاستقرار إلى السوق خلال الفترة المقبلة، قائلا: "الحكومة تتحدث كما تريد والسوق يقول كلمته، لا تعطونا كلام أعطونا دولار حتى نستطيع استيراد سيارات جديدة للناس، سعر الدولار بسوق السيارات يتجاوز الـ38 جنيها".
وقلل في حديثه لـ"مراسل عربي21" من تعهدات الحكومة: "الحكومة تريد الدولار أكثر من التجار والمستوردين لأن عليها التزامات كبيرة تجاه أسواق الدين والمؤسسات الدائنة، وهب تطبع ما تشاء من العملة المحلية ولن يهمها شراء الدولار بأي سعر هي فقط تخشى من ارتفاع الأسعار وغضب المواطن بعد أن أصبح يستجدي لقمة العيش".
مواجهة صعبة مع الدولار
واستبعد الخبير الاقتصادي واستشاري تمويل المشروعات علاء السيد، وقف نشاط السوق الموازية بالطرق التقليدية وعلى رأسها القبضة الأمنية وملاحقة المتعاملين وبث الرعب في الأسواق، قائلا: "القضاء على السوق الموازي لا يكون بالقبضة الأمنية، لا يمكن معالجة المشاكل الاقتصادية والنقدية بالقبضة الأمنية كما يتم التعامل مع المشاكل السياسية لأنها ستولد عدم ثقة وعدم استقرار".
ورأى في حديثه لـ"عربي21" أنه "حتى نسيطر على سوق التعاملات غير الرسمية فيجب البحث بكل بساطة في أسباب وجودها، وهي زيادة الطلب وتراجع المعروض، هناك إجراءات يجب اتخاذها على المدى القصير وأعتقد أن الحكومة أخذت ببعض منها للحد من هروب الدولار ".
لكنه أكد أن "من المهم تشجيع القطاع الخاص وزيادة الصادرات وتنمية السياحة والاستغلال الأمثل لثروات البلاد؛ لأنها هي الموارد الحقيقية للدولار التي تساعد الدولة في توفير العملة الأجنبية وبالتالي ارتفاع قيمة الجنيه، الأمر مرهون بتدفقات دولارية لتلبية الطلبات والاحتياجات، واحتكار الدولة بما فيه الجيش على مفاصل الاقتصاد سيعطل عودة الثقة للاقتصاد، ولا أتصور أن الحكومة قادرة على وضع حلول طويلة الأمد هي تعتمد على المسكنات والحلول المؤقتة".