قال تقرير لموقع "ميدل إيست آي"
البريطاني، إن آثار 17 قنبلة
نووية فجرتها
فرنسا في الصحراء
الجزائرية بين 1960 –
1966 لا تزال محسوسة حتى في
ليبيا المجاورة.
ونقل الموقع في التقرير الذي أعدته
سميرة السعيدي، عن أحد أبناء المتوفين من آثار الإشعاعات النووية: "أبحث عن
كلمات غير موجودة؛ حيث تُوفي والدي في اليوم الذي بكت فيه رياح الصحراء، وغيابه لا
يزال واقعًا، مثل صرخة صامتة عالية ومثل الفراغ الذي لا تستطيع الكلمات
ملأه".
يبلغ عابد الفيتوري من العمر 64 سنة
الآن، ولكنه لا يزال يتذكر وفاة والده والأحداث التي أدت إلى ذلك.
وينتمي الفيتوري إلى فزان، المنطقة شبه
الصحراوية في جنوب غرب ليبيا؛ حيث أمضى 20 سنة هنا في أعماق الصحراء، في جمع
المواد لكتابه "صرخة الصحراء"، مدفوعًا بفقدان بصر والده في سنة 1960
ووفاته بعد بضع سنوات.
وقال الفيتوري، أستاذ الفلسفة في جامعة
سبها، في حديثه لـ"ميدل إيست آي" من منزله في الزغان، إن طفولته جاءت
بتكلفة باهظة؛ حيث كافح وسط ظروف صعبة بينما كان يطارده عمى والده.
وفي وقت لاحق؛ اكتشف الفيتوري سبب حالة
والده؛ حيث علم أيضا أنه لم يكن وحيدًا، فلقد أصيب العديد من الأشخاص في فزان
بأمراض الجهاز التنفسي والعيون في سنة 1960؛ حيث كانت عدوى العين الحادة منتشرة
جدًا في ذلك الوقت لدرجة أن ذلك العام أصبح يُعرف باسم "عام الرمد".
ويتابع التقرير بأنه تبع ذلك "عام
الجدري" و"عام الريح الصفراء" و"عام النخر"؛ حيث بدأت
تنتشر الإصابة بالسرطان بأعداد كبيرة بين سكان فزان، في ظل سقوط الأمطار الحمضية؛
حيث كانت الأرض تعاني، فماذا حدث؟
انفجارات في الصحراء
في 13 شباط / فبراير 1960؛ أجرت فرنسا
أول تجربة نووية لها في رقان، وهي مدينة واحة في جنوب الجزائر، بينما كانت الحرب
من أجل استقلال الدولة الواقعة في شمال أفريقيا مستمرة منذ سنة 1954، وكان الرئيس
الفرنسي شارل ديغول حريصًا على أن يظهر للعالم أن فرنسا تنتمي إلى قمة القوى
العسكرية، بحسب الموقع.
وجاء في التقرير أنه "تحقيقًا
لهذه الغاية؛ تم تفجير أول قنبلة ذرية فرنسية، والتي سميت باسم الجربوع الأزرق
تيمنًا بالعلم الأزرق ذي الألوان الثلاثة وحيوان صحراوي صغير في الصحراء، وقد
أطلقت أكثر من أربعة أضعاف كمية الطاقة التي أسقطتها القنبلة الأمريكية على
هيروشيما".
وبعد بضعة أشهر؛ عندما كان الزعيم
السوفييتي نيكيتا خروتشوف في زيارة رسمية لفرنسا، تم تفجير قنبلة فرنسية ثانية في
الصحراء.
ويتابع: "بين سنتي 1960 و1966 -
أي بعد أربع سنوات من حصول الجزائر على استقلالها - فجرت فرنسا 17 قنبلة في
الصحراء، بما في ذلك أربع قنابل في الغلاف الجوي بالقرب من رقان، والتي وصفها شهود
العيان بأنها أكثر الأشياء وحشية التي رأوها في حياتهم".
وأفاد تقرير برلماني فرنسي أن أربعة
انفجارات سرية في الصحراء الجزائرية "لم يتم احتواؤها أو حصرها
بالكامل"، وكان أشهرها حادثة بيريل، التي أصيب خلالها تسعة جنود وعدد من
القرويين الطوارق المحليين بشدة بالنشاط الإشعاعي.
وكان تأثير برنامج التجارب النووية
الفرنسي في الجزائر فوريًا ومستمرًا؛ فبعد الانفجار الأول في سنة 1960، سقطت
التداعيات الإشعاعية في غانا المستقلة حديثًا وفي نيجيريا، التي كانت في أيامها
الأخيرة كمستعمرة بريطانية.
وكشفت وثائق الدفاع السرية التي استشهدت
بها صحيفة "لو باريزيان" في سنة 2014 أن مناطق أكبر بكثير مما ادعت
الحكومة قد تأثرت بذلك.
في الواقع؛ غطت الإشعاعات المنبعثة من
القنبلة الأولى وحدها منطقة تمتد من الجزائر إلى ليبيا إلى موريتانيا ثم إلى مالي
ونيجيريا، حتى أن التأثير وصل إلى أقصى الشمال مثل إسبانيا وإيطاليا، وذلك خلافًا
لتأكيدات باريس.
لقد تأثرت المنطقة الجنوبية الليبية –
وفزان على وجه الخصوص – بشدة؛ حيث نقلت الرياح الغربية سحابة نووية من مواقع
التجارب في إيكر بالجزائر إلى فزان، وذلك وفقًا لخريطة عسكرية فرنسية.
إن حبة الرمل تحتفظ بالإشعاع لفترة
تقدر بـ 24.000 سنة، بينما قال السكان المحليون إن أحد أهم مطالب سكان الصحراء،
وهي تطهير المنطقة من المخلفات السطحية المتبقية والكشف عن الأماكن التي يتم دفن
النفايات النووية فيها؛ تم تجاهلها تمامًا من قبل الفرنسيين.
سماء برتقالية
وفي شباط/ فبراير من سنة 2021؛ كانت
الرمال الصحراوية في الجزائر قد تشبّعت بمستوياتٍ عاليةٍ بشكل مذهل من الإشعاع،
فيما اتّشحت السماء باللون البرتقالي.
بالعودة إلى الجزائر؛ وجدت الدراسات
التي أُجريت على مر السنين أن السكان الذين يقطنون بالقرب من مواقع الاختبار لا
يزالون يعانون من تبِعات هذه التجارب، مع تشوهات خلقية وأمراض خطيرة تنتقل عبر
الأجيال، بالإضافة إلى العديد من أنواع السرطان، حيث تأثر ما بين 27 ألفا و60 ألف
جزائري بمستويات الإشعاع، بحسب عبد الكاظم العبودي، أستاذ الفيزياء النووية
الجزائري بجامعة وهران، الذي توفي سنة 2021.
وفي الصحراء الليبية؛ لم يتم توثيق
تأثير التجارب النووية الفرنسية بشكل دقيق، وواجه الباحثون الذين يبحثون في تأثير
الاختبارات عوائق من أنواع مختلفة، حيث يُعتقد أن السلطات الفرنسية والليبية
والجزائرية مسؤولة عن عرقلة التحقيقات. وتُظهر المقابلات مع السكان المحليين
والمعلومات الرسمية المقدمة إلى موقع "ميدل إيست آي" أن آلاف الأشخاص في
فزان ما زالوا يعانون من الاختبارات الفرنسية التي أُجريت في الستينيات.
وقال الأستاذ محمد صالح (55 سنة) من
قرية وادي عطبة لموقع "ميدل إيست آي" إن هناك حاجة للبحث والتحقيق في
الأضرار التي لحقت بأهالي فزان نتيجة الاختبارات، مشيرًا إلى أن سنة 1960 كانت
تُعرف أيضًا باسم "سنة المفاجأة"، وأن العديد من الناس والمنازل قد
دُفنوا في أعقاب ذلك ولفت إلى أن تبعات هذه التجارب مستمرة إلى يومنا هذا، ولا
يزال الناس يعانون ويلاتها.
من جهتها قالت المزارعة سعدة جبريل (70
سنة) من قرية غدوة إن أمطارًا حمضية سقطت في سنة 1960 فقتلت الإبل وأصابت الناس
بحمى قتلت عائلات بأكملها، وكان من بين المصابين جدها، الذي أصيب بحمى وتوفي بعد
يومين على إثرها. وأضافت أنه رغم كونها طفلة آنذاك، إلا أنها ما زالت تتذكر تلك
اللحظات المؤلمة. أما المواطن محمد نصر من فزان فقد أضاف للموقع بأن المعاناة لا
تزال مستمرة حتى يومنا هذا؛ ولا يزال مئات المصابين بسرطان مجهول السبب يظهرون في
فزان، ولا يكاد يمر يوم دون دفن أشخاص ماتوا جرّاء مرض السرطان.
وتحدث نصر عن انخفاض معدلات الخصوبة في
الأجيال المتعاقبة بعد التجارب النووية، ويُعزى ذلك جزئيًّا إلى أن "الأمطار
الغزيرة هي المصدر الوحيد للمياه الجوفية في فزان لندرتها، ومصدرها الصحراء
الجزائرية، مما يعزز فرضية وجود نفايات نووية مدفونة". وقد توصلت الأبحاث إلى
أن الاختبارات أسفرت عن تلوث المياه الجوفية ووجود نشاط إشعاعي فيها.
من جانبه أفاد الاتحاد الليبي لمكافحة
السرطان أن عدد الحالات في الجنوب مرتفع، وهذا ينطبق بشكل خاص على سرطان الرئة،
حيث قال الدكتور عمر علي، استشاري الأورام، لموقع "ميدل إيست آي" إنه
على الرغم من عدم وجود إحصائيات دقيقة تتعلق بعدد المصابين بالسرطان في ليبيا، فإن
"العدد ضخم"، و"السبب في ذلك هو تلوث المياه والهواء جرّاء
التفجيرات النووية". وعادة ما يأتي تأثير التفجيرات النووية على مرحلتين:
الأولى هي الأمراض الجلدية والحساسية، والثانية أورام سرطانية يعاني منها كثيرون في
الصحراء الليبية.
محنة قاسية
سعى عابد الفيتوري في بحثه في كتابه
إلى جمع الروايات الشفوية في فزان، والتحدث بشكل خاص إلى كبار السن والتواصل مع
الأستاذ العبودي الذي كتب عن الآثار طويلة المدى للتفجيرات النووية، بما في ذلك
الأورام والتشوهات الخلقية وغيرها. وفي تحول قاسٍ من القدر، يعاني الآن الفيتوري،
الذي فعل الكثير لتوثيق آلام أهالي فزان وشاهد والده يموت بسبب التجارب النووية،
من ورم سرطاني.
وقال الفيتوي لموقع "ميدل إيست
آي" وعيناه مليئتان بالدموع: "بالأمس، فقد والدي بصره، وهذا سبّب لي مشقة
كبيرة؛ فاليوم، منعني نفس السبب من التنقل"، متسائلًا: "كم من المآسي
تنتظر الأجيال القادمة؟".
إن ما تبّقى للفيتوري من أبيه هي
الأفكار والذكريات قائلًا للموقع: "لا يزال الضوء الذي يشع من ذكره الطيب
يدفئ أطرافي، وما زلت أغمض عيني وأحدثه كلما ذهبت للنوم وبين الفجر والغسق. هناك
أشياء لا يمكننا رؤيتها إلا في الظلام، ولا تزال ذكراه تهمس في أذني، وكلماته
الأخيرة عندما كان على فراش الموت، ولحظة الوداع" مضيفًا "ما أصعب فقدان
الأب".