وكأن حكومة بنيامين نتنياهو السادسة شديدة التطرف اليميني قد ضربت على رأسها، فما أن وقعت عملية القدس قبل أيام، حتى كان قادتها، خاصة كل من رئيس الوزراء نتنياهو نفسه، وإيتمار بن غفير، يرفعون عقيرتهم بكل ما في قاموس التطرف من تهديد ووعيد، وكأن كل ما قالوه من قبل لا يكفي، أو كأن كل ما فعلوه لم يشف غليلهم، وحقيقة الأمر أن ما صدر من قرارات بعد اجتماع مدة ثلاث ساعات ونصف للكابينت، يدل بشكل قاطع، على غياب العقل والتعقل عن حكومة
إسرائيلية، تبشر جميع من يحيط بها، من
فلسطينيين وعرب وإسرائيليين، بالشر، ذلك أن الاستمرار في «ركوب الرأس» ومعاندة حقائق التاريخ والمنطق البشري، لا يمكن لهما أن يستمرا إلى الأبد، فضلاً عن أن ذلك لن ينجح، ولن يوقف حمام الدم، الذي فتحت له إسرائيل الأبواب واسعة، باستمرار احتلالها لأرض وشعب فلسطين، ومن ثم بالإصرار على إغلاق كل الأبواب والنوافذ أمام حل وسط يحفظ أمن إسرائيل وكرامة وحقوق الشعب الفلسطيني.
تضمنت قرارات الكابينت، ما كان معتاداً وما هو مستجد، بمعنى أن إسرائيل معتادة على اتخاذ إجراءات محددة، بعد كل عملية مقاومة فلسطينية مشابهة توقع ضحايا في صفوف الإسرائيليين، سواء كانوا جنود احتلال أو مستوطنين، ومن ذلك هدم منازل منفذي عمليتي القدس، لكن الجديد العنصري الإرهابي تمثل في توسيع دائرة العقاب الجماعي، باستهداف أقارب وعائلات منفذي العمليات، ويشمل ذلك سحب هويات وإقامات عائلات المنفذين، والأخطر كان بالطبع الإعلان عن تشكيل ميليشيات، حيث أشار نتنياهو إلى وجود أكثر من 3000 متطوع لدى منظمة «زاكا»، حيث قررت حكومته المتطرفة تسليح هؤلاء، وبالتالي يمكن القول بأن عمليتي القدس قد كشفتا عملياً عن حقيقة برنامج الحكومة الإسرائيلية الخاص بتحويل وزارة الأمن الداخلي إلى وزارة الأمن القومي، حيث يبدو بأن بن غفير جاء لتلك الوزارة وهو يضع نصب عينيه هدف تشكيل جماعة إرهابية مسلحة من المستوطنين، لممارسة أعمال القتل بحق الفلسطينيين، وبالتالي «تحرير» جنود الجيش الإسرائيلي من هذه المهمة، ومن احتمالات مساءلتهم أمام المحاكم الدولية.
أول ما يمكن قوله إزاء رد الفعل الإسرائيلي وحتى بعض ردود الفعل الدولية، بأنها مجحفة، وبعضها عنصري تماماً، فقد جاءت عملية القدس التي أوقعت 7 ضحايا من المستوطنين الإسرائيليين بعد يوم واحد فقط، من المجزرة التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون بحق المواطنين الفلسطينيين في مخيم جنين، حيث سقط أكثر من عشرة قتلى ونحو عشرين جريحاً، إلا أن كلاً من واشنطن ولندن اللتين تجاهلتا المجزرة بحق الفلسطينيين، سارعتا إلى الإعلان عن أن ما حدث في القدس أمر مروّع، والحقيقة أن استمرار واشنطن بالذات في تجاهل الغي الإسرائيلي لا يخدم إسرائيل نفسها، فمستقبل إسرائيل مرتبط بإنهاء احتلالها لأرض دولة فلسطين، ودون ذلك لا مستقبل لها كدولة طبيعية في الشرق الأوسط.
المهم أن عملية القدس بالتوقيت وحجم الخسائر التي ألحقها مقاوم وحيد فقط، بالجانب الإسرائيلي، يكشف بأن استمرار إسرائيل في سياسة الردع الأمني، لن يؤدي إلى استسلام الشعب الفلسطيني، وأن عود المقاومة يشتد، وأن جعبة الشعب الفلسطيني لم ولن تنضب أبداً، وأن المساواة والعدالة والحرية يجب أن تنتشر وتسود على هذه الأرض، أما استمرار التمييز بين الدم والدم، والتمييز بين البشر على أساس طائفي خاصة، سيواجَه بما يستحق من مقاومة، ستلحق به الهزيمة، ولن تكون القوة العسكرية الإسرائيلية، ولا أميركا ولا غيرها كافية، لليّ عنق الحقيقة، ليس لأن فلسطين وشعبها يستحقون الحياة الحرة الكريمة وحسب، بل لأن
الاحتلال والعنصرية وصفة مدمرة لإسرائيل نفسها.
ولن يستوي منطق الحياة ما دام هناك تمييز بين دم فلسطيني ودم إسرائيلي، بين حياة الإنسان الفلسطيني وحياة الإنسان الإسرائيلي، هذا رغم أن الفلسطينيين يعيشون على أرضهم وفي وطنهم المحتل، بينما الجنود والمستوطنون يغتصبون أرضهم، لذا فإن طردهم من أرض دولة فلسطين، في الوقت الذي يحرر الفلسطينيين من الاحتلال الأجنبي، فإنه يحرر الإسرائيليين من سطوة العنصريين والمتطرفين. لا نقول هذا الكلام من زاوية الإنشاء اللغوي، فالإعلام الإسرائيلي نفسه هو الذي وصف عمليتي القدس بأنهما كانتا احترافيتين إضافة إلى قسوتهما، فقد وقعتا رغم كل التدابير الأمنية التي اتخذها الجيش الإسرائيلي في إطار استعداده للرد على مجزرته التي ارتكبها قبل ذلك بيوم واحد فقط في جنين.
بل أكثر من ذلك إن عمليتي القدس جاءتا بعد نحو عام من العملية العسكرية الإسرائيلية المسماة «بكاسر الأمواج»، التي زج فيها الجيش الإسرائيلي نحو نصف قواته العسكرية، ورغم عمليات المداهمة المتواصلة للمدن والقرى الفلسطينية، وبالرغم أيضا من القتل اليومي الذي يقوم به بحق الشبان والمواطنين الفلسطينيين، وربما أن إسرائيل ما زالت لم تلحظ بأن كل إجراءاتها تتعامل مع الجانب الفلسطيني وفق ما هو تقليدي من الحرب ما بين الاحتلال والشعب المحتلة أرضه، حيث يقوم جيشها خلال المداهمات بقتل واعتقال المطلوبين، أو من لديهم معلومات عن كونه مقاوماً، فيما من يقومون بتنفيذ عمليات المقاومة الناجحة، أو عمليات الرد على مجازرها، أفراد غير مدرجين ضمن خلايا مقاومة أو مجموعات فلسطينية مسلحة، بل مجرد أفراد يعبرون عن غضبهم على قهر الاحتلال المتواصل لهم ولعائلاتهم وشعبهم.
ولعل إسراع الجيش الإسرائيلي إلى مطالبة كل إسرائيلي لديه رخصة بحمل السلاح إلى حمله، ومن ثم إعلان نتنياهو نفسه عن قرار حكومته تشكيل ميليشيات ستكون حسب مطالبة بن غفير نواة «جيش الحرس الوطني» الذي سيكون جيش احتلال وضم الضفة الغربية، ما هما إلا محاولة لبث الطمأنينة بين المستوطنين، الذين يدركون أنه لا مستقبل لاحتلالهم على هذه الأرض.
أما قناة كان 12 الإسرائيلية فقد كشفت عن أن الجيش الإسرائيلي كثف فوراً من دورياته ونشر نحو 60% من قواته في الضفة الغربية، وهذا يعني بأن الجيش الإسرائيلي يغرق في «وحل الضفة الغربية» ولن يكون جاهزاً حسب المحللين الإسرائيليين لمواجهة احتمالات اندلاع حروب على الجبهات الخارجية، سواء في لبنان، حيث يمكن أن يحدث هذا، بعد أن أوقفت حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة تنفيذ الاتفاق الذي رعته واشنطن والخاص باستخراج الغاز البحري من قبل كل من لبنان وإسرائيل في عهد حكومة يائير لابيد السابقة، وبعد وقف الحوار مع إيران الخاص بالعودة للاتفاق النووي.
أما واشنطن فقد سارعت إلى إرسال وزير خارجيتها أنتوني بلينيكن إلى الشرق الأوسط لمنع تدهور الأمور أكثر مما هي عليه، بما يؤكد استمرارها في محاولة تخفيض مستوى العنف فقط، لا أكثر ولا أقل، وذلك يؤكد بأنها هي الأخرى تمني النفس ببقاء الاحتلال، وعدم مواجهة الإجراءات القهرية الإسرائيلية التي تتضمن كل شيء بما في ذلك قتل الفلسطينيين، دون رد، بل وعدم مقاومة الاحتلال ميدانياً، ما دام لا يوجد هناك أي احتمال لأفق سياسي يضع حداً لهذا الاحتلال البغيض المستمر والقائم منذ أكثر من 55 سنة.
(
الأيام الفلسطينية)