لا شيء يهز أركان
وزوايا ومحتويات ضمائر الشرفاء المخلصين أكثر من استحضار سير حياة
"عظماء" ظلوا مجهولين في الأرض، بعد أن ضحوا بأعز ما يملكون (أرواحهم)
في سبيل نصرة أوطانهم، ومحاولة جلب حياة أفضل لأهاليهم وأبنائهم من بعدهم.
وإذ تمر بنا
الذكرى الثانية عشرة للثورة
المصرية نستحضر ونستلهم معاناة اثنين من مغموري الأرض
معروفي السماء، لعل "منتسبين" إلى
الثورة وقيادات لها مطلقة السراح
تتدارس سيرتهما و"تتملى" فيها أكثر؛ وبالتالي تعاود النظر في مواقفها
الحالية من الثورة واستمرارها، وتبحث عن آفاق جديدة وحلول متأنية مبتكرة لوداع
حالة الفرقة والتمزق، والبعد عن قيم ومبادئ وتعاليم الارتقاء عن المنفعة الخاصة
الذاتية والغرق فيها إلى مصلحة ومستقبل ملايين المصريين المضارين.
إذ تمر بنا الذكرى الثانية عشرة للثورة المصرية نستحضر ونستلهم معاناة اثنين من مغموري الأرض معروفي السماء، لعل "منتسبين" إلى الثورة وقيادات لها مطلقة السراح تتدارس سيرتهما و"تتملى" فيها أكثر؛ وبالتالي تعاود النظر في مواقفها الحالية من الثورة واستمرارها، وتبحث عن آفاق جديدة وحلول متأنية مبتكرة لوداع حالة الفرقة والتمزق
فوقفة أولئك
الذين أدركتهم حرفة الثورة -برأي الشاعر الراحل فتحي سعيد- في أماكنهم تضر
الملايين ولا تنفع أحدا سوى أنفسهم وخاصة أهاليهم للأسف؛ فلا هم بالذين نفعوا
الثورة بالتقدم في آلياتها، ولا هم درسوا إمكاناتهم والواقع مضحين بما يستطيعون في
سبيل راحة الآخرين؛ ولو بتأجيل المسار الثوري حتى حين، ليلتقطوا أنفاسهم ويدرسوا أسباب
تقدم أعدائهم على الأرض جيداً.
وبدلاً من هذا
وذاك رحنا نسمع منذ نحو عامين مقولات بعضهم ملغزة لا تحتوي طرافة في الطرح؛ أو حتى
أفقاً في المعنى كما قدروا له، من مثل: "ثورة
25 يناير لم تنجح لكنها لم تفشل
أيضاً"، "من المفترض إعادة تسمية الثورة المصرية لتصبح ثورة 11 فبراير -يوم
تنحي الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك-"؛ فيما رد آخر أكثر تنظيراً بأنه:
"لو أن الثورة المصرية سُميتْ ثورة 28 يناير لتحول مسارها ولربما انتصرت (في
إشارة لتحول الثورة التام الكامل إلى تبني العنف منذ يوم جمعة الغضب)". ومن
مثل هذه المقولات وغيرها الكثير مما حملته المواقع الإلكترونية للمتدثرين بالكلمات
إزاء برد وقارس وثلج المواقف، وربما صدق فيها الأثر القائل: "إذا أراد الله
حرمان قوم وهبهم الجدل وحرمهم العمل"!
كان الراحل أشرف
سالم علي منصور قد تعدى مرحلة الشباب، إذ استشهد في 29 من كانون الثاني/ يناير
2011م ولديه من العمر 42 عاماً؛ وهو يعمل موجهاً أول للغة العربية في مديرية
التربية والتعليم بمحافظة بني سويف (125 كيلومتراً شمال القاهرة)؛ ولما كان بعيداً
عن "ميدان التحرير" فقد اعتاد أن "يبكي" الشهداء الشباب الذين
يسقطون منذ بداية الثورة حسب إفادة زوجته بعد فراقه.
وفي يوم السبت
التالي لاندلاع الثورة لم يخبر الشهيد زوجته بذهابه للتظاهر السلمي وإنما قال إنه
سينجز معاملة في إدارة مرور المدينة لأحد أصدقائه؛ وبعد خروجه عاد للمنزل ليوصيها
بحسن معاملة أبنائه الخمسة وهم: أسماء (20 عاماً)، آلاء (18 عاماً)، إسراء (14 عاماً)،
نادية (12 عاماً)، وأخيراً سالم الولد الذكر الوحيد الذي أنجبه الراحل وأكثر
أبنائه من بعده حزناً عليه، وكان يبلغ عمره عند فقد والده أربع سنوات. ولما أوصته
زوجته بنفسه لم يزد على أن قال: "خليها على الله".
تعاطف الراحل مع
الشباب الذي يسقط أمامه في أحد التجمعات الثورية المسالمة بمحافظته؛ فأرداه أحد
الضباط قتيلاً برصاصة في القلب؛ دون مجرد حاجة لنقله إلى المستشفى أو تلقي علاج،
ولتبكيه زوجته طوال حياتها قائلة: "تركني وحيدة اتحمل المسئولية.. منهم لله
دمروا حياة أسرة هادئة آمنة مستقرة وشردوها وهدموا فرحتها"؛ بحسب ما رواه
كتاب "دماء على طريق الحرية.. قصص واقعية من ثورة يناير" لحنان بدوي
وحنان السمني (دار صفصافة للنشر، الطبعة الأولى 2011م، نسخة أندرويد).
ومما رواه الكتاب
الأخير -أيضاً- أنه قبلها بيوم كان الراحل محمد سليمان توفيق دسوقي أكمل 20 ربيعاً
من عمره المُفترض أنه يزداد تفتحاً يوماً بعد آخر؛ وهو آخر خمسة أبناء لأب يعمل
فنياً في النحت على النحاس في حي خان الخليلي الشهير في القاهرة؛ وأمٍّ تقف في محل
بقالة صغير قريب من قسم شرطة المرج.
المثالان من فيض وفير لرجال آثروا بلدهم مصر على هناءة أنفسهم واستمرار حياتهم، وزال وجودهم من هذه الحياة منذ 12 سنة أملاً في تغيير وجه مصر.. فهل يتعظ ويقتدي فيتوحد قادة ثوريين -مفترضين- لتعويض أهاليهم الذين ما يزالون يعانون عن أعز ما "كانوا" يمتلكون في الوجود؟
ولأنه عانى كثيراً
فأحب الشاب أن يساعد -ما أمكنه- المحتاجين ويطعم الجوعى وفي نفس الوقت اجتهد؛
فأكمل بعد الدراسة المتوسطة حتى صار طالباً في كلية الهندسة مع عمله في مصنع
للملابس الجاهزة. لم يكن حاله ووقته يسمحان له بالانضمام لجماعة أو تيار أو حزب،
لكنه لما سمع بالدعوة لمظاهرات كانون الثاني/ يناير 2011م بادر ليصبح من الداعين
الحالمين بتغيير أحوال وطنه؛ ورابط في الميدان مع أصدقاء له منذ يوم الثورة الأول؛
لكن أخته الأكبر "أم نور" استدعته للمنزل يوم الجمعة للاحتفال بيوم ميلاده
فوافق؛ وعند قسم شرطة المرج لما أراد الراحل المرور بوالدته في المحل الخاص
بالأسرة لاصطحابها إلى المنزل تعرف الثوار إليه؛ فحملوه فوق الأكتاف، ورددوا
الهتافات وراءه؛ مما استفز القناصة في أعلى القسم فأطلقوا عليه عيارين ناريين
بأعلى الحاجب الأيمن وفوق القلب، ليسقط صريعاً مع سبعة شهداء آخرين في محيط القسم.
هذان المثالان من
فيض وفير لرجال آثروا بلدهم مصر على هناءة أنفسهم واستمرار حياتهم، وزال وجودهم من
هذه الحياة منذ 12 سنة أملاً في تغيير وجه مصر.. فهل يتعظ ويقتدي فيتوحد قادة
ثوريون -مفترضون- لتعويض أهاليهم الذين ما زالوا يعانون عن أعز ما
"كانوا" يمتلكون في الوجود؟ لكم تمنينا.. لكن مرور الأيام والسنين لا
يأتيان إلا بالنقيض تماماً، والله تعالى قادر على إخلاف الرؤى والظنون!