يروى عن أحد قادة الجيش الياباني أن جنرالا فشل في اقتحام إحدى
القلاع بعد حصار طويل، فأمر الإمبراطور بتغيير قائد الجيش، وكان القائد الجديد حكيما فنجح في اقتحام القلعة خلال أيام قليلة بخسائر لا تذكر. ثم توالت نجاحات القائد
الشاب حتى استدعاه الإمبراطور إلى قصره يوما ليسأله عن سرّ نجاحاته العسكرية. كانت
إجابة العسكري مفاجئة للإمبراطور، إذ أخبره بأنه عند حصار القلاع والحصون والقرى
يتعمّد ترك منفذ أو مخرج يسمح للناس بالهرب منه، ويمنع جنوده من التمركز عند هذه
المخارج وهو ما يقلل الخسائر في صفوف جنوده ويقلل من عدد المقاومين داخل ساحة
المعركة.
أضاف القائد الشاب: إنّ حصار القلاع والحصون بشكل كامل وتضييق الخناق
عليها خطأ عسكري فادح لأنه يضع السكان وجنود الأعداء أمام حتمية الموت، مما يحولهم
إلى قوّة ضاربة فتصير قوة الرجل مضاعفة حين يدرك أنه ميت لا محالة، حينها يقاتل بكل
طاقته وكل جوارحه. لكن حين نمنح الجنود أمل الخروج عبر مخارج آمنة فإن الأمل في
الحياة يُضعف القدرة على المقاومة ويصير التشبث بالحياة ولو كان ضئيلا خنجرا في
خاصرة المقاومة وسببا في الهرب من ساحة المعركة.
القصة حقيقية ونظرية الجنرال الياباني تدرّس اليوم ضمن نظريات الحرب
الكلاسيكية وحصار المدن (مبدأ الممرات الإنسانية)، وهي لا تزال صالحة أيضا لقراءة
رمزية الأمل في وجدان الشعوب المحتلة وهي تخوض معركتها من أجل التحرر من ربقة
الاستبداد. إنها المعركة التي يتحول فيها الأمل إلى أداة للقتل، أي أن يتحول وهم
النجاة إلى سلاسل تكبّل أعناق العبيد وتطيل من عمر الطاغية. الأمل القاتل هو ما
تحاول أذرع الأنظمة الشمولية القامعة حقن الشعوب به لتعيش هذه الشعوب على وهم
الأمن والأمان، وعلى أكذوبة الاستقرار وعلى أمل الازدهار والنماء الذي ينتظرها في
أول منعطفات الطريق. إنه الإدمان الذي يسبق لحظة الموت.
اختلاف الآراء
الموقفُ رأيان: إما مصارحة الشعوب بحقيقة الهوة السحيقة التي تسير
إليها بسرعة منفلتة مهما كانت التكاليف، أو مدّها بجرعة من الأمل علّ الله يجعل من
بعد ذلك سببا.
تُتّهم كثير من الأقلام العربية القليلة بأنها مغرقة في السوداوية
مفعمة باليأس إلى حدّ يصل إلى جلد الذات والتلذذ بذلك، فهي لا تجيد غير البكاء على
الأطلال. يرى أصحاب هذه التهمة أنّ الإمعان في النقد والمبالغة في الصراحة أمرٌ لن
يغير من الواقع البائس شيئا بل سيضيف إلى الإحساس بألم الواقع المرير طبقةً من
الوعي به فيتضاعف الألم ويزيد الوجع. لذا يرى أصحاب
الرأي الثاني أنَ الشعوب تحتاج
اليوم إلى جرعة من الأمل الذي قد يلطف من سوداوية المشهد رغم قتامته شعارهم في ذلك
"ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل".
لا يمكن فهم الأدوار والوظائف التي يحققها "الأمل القاتل" لصالح المنظومات الاستبدادية دون تبين الروافد التي يتغذى عليها والتي تمده بأسباب الحياة. قد لا نغفل في خطاب الاستبداد وأذرعه الإعلامية خاصة على البحث الدؤوب عن النفخ في صورة المجموعة المحكومة بالنظام الاستبدادي نفسه.
أما أصحاب الرأي الأول فيروْن أن الأمل كذب على الشعوب وخيانة لأمانة
المثقف ومخاطرة بحياة المريض إن هو جهِل سرّ مرضه العضال. بل إنهم يذهبون إلى أبعد من
ذلك حين يعتقدون أنّ سبب خراب الأوطان وتخلف الشعوب إنما هو جهلها أو إنكارها
حقيقة واقعها وحقيقة مرضها المزمن، وهو ما يتطلب إدخال المريض إلى غرفة العناية
المركزة. يتأسس هذا الموقف على القول بأن أول مراحل العلاج هو التشخيص الصحيح
للمرض وأن خطأ التشخيص سيضاعف من مرض المريض وقد يقضي عليه.
يستند الموقفان إلى إقرارين أساسيين: أما الإقرار الأول فيتمثل في
الاعتراف بأن المجتمعات العربية قد بلغت أدقّ وأخطر أطوارها المرَضية ويتلخص
الثاني في الاعتراف بأن أزمة الشعوب والمجتمعات العربية إنما تكمن في داخلها وأن
دور الخارج دور ثانوي وأنه لا يتحدد إلا بدور الداخل ووظيفته ومناعته.
أساطير الاستبداد
لا يمكن فهم الأدوار والوظائف التي يحققها "الأمل القاتل"
لصالح المنظومات الاستبدادية دون تبين الروافد التي يتغذى عليها والتي تمده بأسباب
الحياة. قد لا نغفل في خطاب الاستبداد وأذرعه الإعلامية خاصة على البحث الدؤوب عن
النفخ في صورة المجموعة المحكومة بالنظام الاستبدادي نفسه.
يحرص النظام الاستبدادي على نشر سرديات الوطنية الكاذبة عبر التغني
بالوطن ورموز الوطن وأبطال الوطن وتاريخ الوطن وملاحم الوطن ورجال الوطن.. الذين
هم ليسوا كذلك إلا بناء على نظرة النظام لهم فقط. كل المساهمات مرحب بها سواء عبر
انتصار الفريق الوطني في كرة القدم والذي قد يتحول إلى ملحمة تاريخية تفوق كل معارك
التحرر والاستقلال، أو عبر صناعة أبطال وهميين قد يكونون في الحقيقة من كبار خونة
الوطن ولصوصه.
إن انتصار فريق كرة القدم يعد مكسبا عظيما للنظام الاستبدادي لأنه
يمنحه جرعة مكثفة من الأمل القاتل، حيث يقدّم الانتصار الكروي على أنه إنجاز عظيم
يتجاوز كل الحروب على الفساد وبناء المنظومات التعليمية والكفاءات الطبية والبنى التحتية.
إن صناعة الزعامات التاريخية الكاذبة أو المبالغة في الاحتفال بالنجاحات الفردية
العلمية أو الرياضية يمثل تقليدا استبداديا يحاول إقناع الشعوب بأن النجاح ممكن في
المناخات الاستبدادية.
لا يكون هذا التقليد فعالا دون المرور بتزوير التاريخ والذاكرة
الجماعية، لأنه الطريق القادر على قطع الجموع عن تاريخها وذاكرتها، مثلما حدث خلال
ما سمّي "حروب التحرير" أو "معارك الاستقلال" خلال منتصف
القرن الماضي، حين تخلصت مجموعة معينة في تونس والجزائر وليبيا ومصر والعراق وسوريا
وليبيا.. من الأحرار الحقيقيين ومكّنت لمن قررت القوى العالمية أن يحكموا
المستعمرات القديمة.
العلاج بالصدمة
إن محاربة الأمل القاتل ومقاومة أساطير الاستبداد يعد واحدا من
المداخل الضرورية لتقويض الأسس التي تقوم عليها ثقافة الاستبداد ووعيه القاتل. وعي
الاستبداد وثقافته ومقولاته هي أخطر السموم التي تعمل على تأخير اليقظة وتعطيل
النهضة ومنع الشعوب من مغادرة منصات التخدير الإعلامي ومواقع التضليل الحزبي
والسياسي والأيديولوجي.
إن محاربة الأمل القاتل ومقاومة أساطير الاستبداد يعد واحدا من المداخل الضرورية لتقويض الأسس التي تقوم عليها ثقافة الاستبداد ووعيه القاتل. وعي الاستبداد وثقافته ومقولاته هي أخطر السموم التي تعمل على تأخير اليقظة وتعطيل النهضة ومنع الشعوب من مغادرة منصات التخدير الإعلامي ومواقع التضليل الحزبي والسياسي والأيديولوجي.
بناء عليه يكون العلاج بالصدمة أحد أهم الأسلحة التي يجب اعتمادها في
معركة الوعي القادمة بين جبهة الحرية والتحرر، وبين فيالق الاستبداد وجحافل
الدكتاتورية. إن العلاج بالصدمة يعد أحد الأدوات الحاسمة في ميدان العلاج من
الإدمان، لأن هذه الشعوب قد أدمنت خطاب الاستبداد القائم على نشر الأمل القاتل
والترويج لمخدرات الزعامة والنجاح والمقاومة والنضال والانتصار ... لشعوب غارقة في
وحل التخلف والجهل ذاهبة إلى الفناء والتحلل.
إن مواجهة الشعوب بحقيقة واقعها الأسود المؤسَّس على سيادة الفساد
والنفاق الاجتماعي والحقد الطبقي، وعلى انهيار التعليم والصحة والاقتصاد والثقافة
والقيم، هو الطريق الوحيد الممكن لتفادي السقوط في الهاوية ومنع الانهيار الكبير.
لا تتأسس هذه القناعة على موقف انفعالي أو عصبي متطرف بل تتأسس على الوعي بأن كل
الطرق الأخرى إنما تعمل عن قصد أو عن غفلة على إطالة عمر الاستبداد ورفع تكلفة
التحرر والتحرير.