الأزمة الجديدة التي تفجرت بين
الجزائر وفرنسا على خلفية ما بات يعرف بقضية الصحافية والناشطة الحقوقية أمينة بوراوي وضعت ما تم إنجازه في أواخر السنة الماضية من شراكة استثنائية بين البلدين محل تساؤل كبير، إذ كشفت هذه الأزمة عن هشاشة هذه العلاقات، وعدم وجود أي صيغة تجعل من الممكن تجنب الصدمات الدبلوماسية بين البلدين.
الجزائر، باستدعائها لسفيرها في باريس من أجل التشاور، تكون قد أقدمت على خطوة تصعيدية كبيرة، ربما رأى بعض المراقبين أنها جاءت غير متناسبة مع طبيعة الأزمة، وأنه كان بالإمكان تدبير الأزمة بخطوات أقل تصعيدا.
التفاصيل المرتبطة بهذه القضية، تشير إلى أن القضية ليست كما يتصور هؤلاء المراقبون، وأن الأمر تجاوز قضية تسفير ناشطة حقوقية من الجزائر إلى
فرنسا، ومس بشكل خاص بهيبة الأجهزة الأمنية والعسكرية الجزائرية، وأجهز على المكانة الاعتبارية التي تحظى بها الجزائر في
تونس، ففرنسا، في تقدير الأجهزة الاستخباراتية الجزائرية، لم تكتف باختراق الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الجزائرية، من خلال التواصل مع جهات داخلها ساعدت في تمكين الناشطة الحقوقية من السفر إلى تونس عبر الحدود الجزائرية التي صدر قرار بمنعها من تجاوزها، بل امتد دورها إلى اختراق العلاقات الجزائرية التونسية، وإقناع السلطات التونسية بعدم الرضوخ للضغط الجزائري، وتمكين الصحافية والناشطة الحقوقية أمينة بوراوي إلى السفر إلى باريس بعد أن قدمت فرنسا الحماية لها عبر سفارتها في تونس، وهو ما يعني إثبات عجز الاستخبارات الخارجية الجزائرية وتحدي دورها في دولة (تونس) تعتبر الجزائر أن لها حظوة كبيرة فيها بسبب ما تقدمه من دعم للرئيس التونسي الذي فقد شرعيته السياسية بسبب تراجع الدعم الداخلي والخارجي على حد سواء.
فرنسا لحد الآن لم تبد أي رد فعل على قرار الجزائر استدعاء سفيرها من أجل التشاور، ولم تعلق على الأزمة، ربما لأنها تقدر أنها لم تفعل أكثر من الواجب في حق مواطنة تحمل الجنسية الفرنسية إلى جانب جنسيتها الجزائرية، وربما كانت وراء التصريح الأخير الذي صرحت به الناشطة الحقوقية، حينما قالت عند وصولها لمدينة ليون الفرنسية بأنها لم تهرب من الجزائر، ولن تختار فرنسا كبلد منفى، وأنها ستعود للجزائر قريبا.
في الواقع ثمة اختلاف في تكييف هذه القضية بين البلدين، ففرنسا، تعتقد أن من حقها التدخل لفائدة مواطنتها لمساعدتها في الخروج من الجزائر، ومن تجاوز التضييق التي تعانيه بسبب قرار السلطات الجزائرية منعها من مغادرة التراب الوطني، بينما ترى الجزائر أن دخول أجهزة أمنية خارجية لتحدي قرار سياسي يتعلق بمواطنة جزائرية، يعتبر تدخلا في الشأن الداخلي، واختراقا للأجهزة الأمنية ومسا بهيبتها، فضلا عن كونه تواطؤا مع جهات حقوقية محلية ودولية على إدانة الوضعية الحقوقية في الجزائر.
لكن، بعيدا عن هذا الاختلاف في التكييف، ثمة اعتبارات أكبر من ذلك، تجعل هذه القضية تأخذ أبعادا أمنية جد معقدة، فالسلطات الجزائرية، باتت في وضعية إحراج محلي ودولي، وهيبة أجهزتها الأمنية، فضلا عن دورها الخارجي في تونس، أصبح كل ذلك في دائرة الاتهام، إذ أصبح السؤال الأبرز هو كيف اخترقت أجهزة الاستخبارات الفرنسية أجهزة الأمن الجزائرية، فتم تمكين هذه الناشطة من السفر إلى تونس عبر الحدود بين البلدين، وهو الأمر الذي لا يمكن تصوره إلا بتواطؤ ضد مصالح البلد العليا، وكيف نجحت الاستخبارات الفرنسية في أن تضعف المكانة التي تحظى بها الأجهزة الاستخباراتية الخارجية الجزائرية في تونس، فأبطلت مفعول الضغوط التي مارستها الجزائر على تونس من أجل استعادة هذه الناشطة وترحيلها للجزائر، وكيف لعبت تونس عبر مؤسساتها العليا، وبشكل خاص مؤسسة الرئيس، لصالح السلطات الفرنسية ضدا على العلاقات التي تربطها مع الجزائر، والتي يقر الطرفان أنها بلغت لمستويات من الثقة لا يمكن الطعن فيها، بحكم الدعم الذي قدمته الجزائر للرئيس قيس سعيد لاستنقاذ شرعيته السياسية، بعد أن فقد دعم الداخل والخارج على حد سواء.
تونس لم تكن تملك خيارات كبيرة، فقد تعرضت للضغط من قبل جهتين، تقومان معا بتقديم الدعم السياسي لرئيسها، فلم يجد قيس سعيد سوى الاستجابة للضغط الفرنسي، بعد أن رجح لديه أن ما تقدمه فرنسا له هو أكبر مما يمكن أن تقدمه الجزائر، وأن التكييف القانوني، يشجعه على تقديم تبرير تتفهمه الجزائر، بحكم أن الناشطة الحقوقية تملك جواز سفر فرنسيا، وأنها احتمت بالسفارة الفرنسية بتونس، وأنها بموجب القانون، أضحت ملزمة بتمكينها من حقها من السفر باعتبارها مواطنة فرنسية وأن لا شيء في القانون يمنعها من السفر إلى فرنسا عبر مطار قرطاج.
لحد الآن، ليس هناك أي مؤشر لوجود تصعيد ما بين الجزائر وتونس، فلم تقم الجزائر باستدعاء سفيرها في تونس على غرار ما قامت به مع سفيرها في باريس، والراجح، أن الحسابات الإقليمية الدقيقة هي التي كانت وراء ابتلاع الطعنة التونسية، فالجزائر، لا تريد أن تسحب الدعم السياسي عن قيس سعيد، لأنها تعرف أن البديل السياسي عنه، لن يكون أبدا في مصلحتها، لكنها في الوقت ذاته، لا تريد أن تبدو بصورة جهة فاقدة للخيارات تجاه تونس، وقابلة للتعرض لأي طعن آخر منها، بسبب أن السيناريوهات البديلة للرئيس قيس سعيد تسير كلها ضد مصالحها القومية أو ضد نفوذها المتزايد في تونس.
الخيارات التي تملكها الجزائر في إدارة أزمتها مع فرنسا باتت جد محدودة، فهي الآن بين خيارين مكلفين، الأول هو نسيان هذه القضية أو العمل على تناسيها مع مرور الوقت بما يؤمن مكاسب الشراكة الاستراتيجية الاستثنائية التي عقدتها مع فرنسا، وهو الخيار الذي يصعب اعتماده، بحكم أنه سينهي حكاية «السيادة الجزائرية» وحكاية أنها تتعامل مع فرنسا بمنطق الند للند، وسيطعن في صورة الأجهزة الاستخباراتية والأمنية، ويبينها في صورة الأجهزة المخترقة من طرف جهات تخدم مصالح فرنسا على حساب المصالح الوطنية.
أما الخيار الثاني، فهو الانتصار لهيبتها الأمنية والاستخباراتية ولمنطقها السيادي، وفي هذه الحالة، سيكون لزاما عليها أن تواجه تحدي مراجعة مكتسباتها في الشراكة الاستثنائية مع باريس وخسارة عمل تراكمي طويل تم بناؤه تقديرا للمصلحة القومية الجزائرية في محيط إقليمي جد متوتر.
البعض يتصور أنه بالإمكان الاشتغال على خيار ثالث، وهو أن تقدم فرنسا على إجراء ما ضمن اتفاق مسبق مع باريس (صفقة) يقضي بعودة الناشطة الحقوقية للجزائر بما يحفظ ماء وجه الأجهزة الأمنية الجزائرية ويعيد الاعتبار للسيادة الجزائرية، على أساس أن تعود بعد مدة مؤقتة (ريثما حتى تنسى قضيتها) إلى فرنسا.
التقدير أن التصريح الذي صرحت به هذه الناشطة غداة وصولها لليون، يؤكد بأن فرنسا تشتغل على هذا الخيار، لكن ربما من طريق واحد، وربما فكرت في هذا الخيار لامتصاص التصعيد الجزائري باستدعاء السفير الجزائري، إذ لا يوجد أفضل من هذا الخيار، لتجاوز مآزق الخيارين السابقين، فالجزائر لا يمكن أن تفسد علاقتها مع فرنسا، وتدفع باريس إلى تقديم تنازلات مؤلمة للرباط من أجل إعادة العافية للعلاقات بين
المغرب وفرنسا، وفي الوقت ذاته، لا يمكن أن تسمح بأن تكون هيبة أجهزتها الأمنية والاستخباراتية وسيادتها الوطنية محل تساؤل واتهام وسخرية محلية ودولية.