يحضر
الزلزال في التاريخ كتمرين. تمرين على «نهاية العالم». أقلّه على نهاية «عالم ما» و«الشروع في آخر». بالزلازل وثورات البراكين صاغ النوع البشري وعيه السحيق. هو إذن وعي «جيولوجي» بالكوارث.
وعي سابق على الانفصال بين الأسطورة والعلم، يقفز فوق العصور والأحقاب المختلفة ويصلها بعضها ببعض، ويكاد أن يتفوق على الوعي «المناخي» بالكوارث، المرتبط بما يعتمل في النوع من ذاكرة الفيضانات والأعاصير والمجاعات، وعلى الوعي «البيولوجي» لها المتجدد بالأمراض والأوبئة.
كان هذا قبل أن يتبوأ مختبر الكوارث الذي هو الإنسان دورا أكبر في الإتيان بمثلها، لكن من صنعه. بما في ذلك إسهامه المتزايد في صناعة الكوارث المناخية والبيولوجية. «الكارثة الجيولوجية» يبقى لها، في المقابل وحتى الآن، نوع من استقلالية بإزاء عمل الإنسان. هي الغيب المنبجس من الأرض.
يصعب ربط خارطة تعاقب الزلازل بتاريخ العمران في الأرض، كما بتاريخ ما يتضمنه هذا العمران من باع طويل في الهدم واندثار مجتمعات وانتشار أخرى. يمكن لزلزال أن ينهي مدينة، لا يمكن لمدينة أن تستعجل حصول زلزال أو تتفاداه.
لم يعد، في المقابل، لأي من الفيضان والإعصار أو الوباء ولا حتما المجاعة من استقلالية ذاتية حيال ما يزاوله الإنسان.
يحتفظ الزلزال بامتياز على مستوى الكارثة، على مستوى الرعب، وبسعة انتشار وحصول لا يمكن أن يجاريها البركان، «الموضعي» أكثر، والغدار أقل.
قصة البركان مع البشر الملازمين لجواره هي قصة عشق ورعب، قصة كرّ وفرّ. الزلزال جاف أكثر حتى لو تسبب بتسونامي وأغرق الكثيرين، لكنه بلا حمم وملاحم. قصيدته ليست منه. هو كينونة نثرية حتى النخاع. ليست اللعبة أن تروّضه أو يُروّضك، يصفعك والسلام. يدخلك في «نهاية العالم» ويخرجك منها بعد هنيهة، هذا إن لم تكن من ضحاياه المباشرين. أن ترى أن العالم بقي على حاله حتى بعد مشهد نهايته الذي خبرته: هكذا هو الوعي بالزلزال. يزرع فيك بذرة مجنونة. أنّ العالم اختبر نهاية العالم واستمرّ لا يلوي على شيء.
هو هنا، لأن حياة الكوكب الجيولوجية مستقلّة بالكامل عن حياة أي نوع من الأنواع الحيّة التي تسرح وتمرح على قشرتها. ومن الإنسان المتخذ من قشرة الكوكب حديقته ومقبرته في آن، والحائر بين ما للحديقة وبين ما للمقبرة.
هناك براكين تنشط وتنطفئ. ليست هي حال الزلازل. ما من أقاليم يمكن القول فيها؛ إنها «نضبت زلزالياً»، إنها «خدمت عسكريتها» زلزاليا وارتجافيا. ولو أن المناطق المعرضة لخطر الزلازل تتفاوت فيما بينها.
رهبة الزلزال هي أيضا رهبة «الما لم يؤنسن» على هذه الأرض. فالإنسان لم يؤثر بعد على حركة الصفائح التكتونية. كل ما يسعه فعله هو تبديل علاقته مع الزلازل وليس تبديل الزلازل نفسها. قد يكون بإمكانه في المستقبل التوقع متى حدوثها وليس فقط الأماكن الأكثر عرضة لها، كما هي حدود معرفته الآن، لكن… «ما زال مبكرا» للغاية أي تفكير بأثر له في مآل الزلازل.
هذا مع أنه، منذ امتلاكه السلاح النووي، صار قادرا من الناحية النظرية على إفناء الحياة على الكوكب. لكنه، غير قادر على التأثير على هذا الشكل الآخر من الحياة، الحياة الجيولوجية للكوكب.
الإنتربوسين الذي يشار إليه كحقبة جيولوجية جديدة من عمر الأرض، مرتبطة بما صاغه البشر على مستوى البيوسفير والمناخ والثروات المعدنية والطاقة له حدوده. الزلازل تظهير لحدود الإنتروبوسين.
المفارقة هنا أن انعدام الأثر الكلي للإنسان، بما يتعلق بحصول الزلازل في موعد بعينه، وبدرجة بعينها، تتداخل في وعيه الشقيّ مع شعور له أشكال وأنماط شتى، من التخريج والتصريح حول الغضب عليه، المنبعث من باطن الأرض؛ من قشرتها بالأحرى، والماوراء النافخ في هذا الغضب.
بخلاف البراكين، الزلازل لا مشهد لها إلا الدمار الذي تحدثه. لا شتاء زلزاليا على غرار الغبار والشتاء البركانيين. البراكين تشبك مباشرة مع المتغيرات المناخية. تصل الأرض بالسماوات، تعدّل حرارة الكوكب بأسره. الزلازل وفية أكثر لأرضيتها الترابية.
تدب الرعب فينا أكثر، لأنها تزلزل «منظومتنا الدفاعية» السحيقة من داخلها. فقد بنيت منظومتنا الدفاعية على امتداد تاريخ الحضارات بالاحتراس من المرعب الآتي من جهة البحر، أو من السماء، أو من الفضاء. حتى البراكين يمكن احتسابها في هذا الوعي السحيق الذي للإنسان بمنزلة كائن بحري ناري ولو على اليابسة. فإن تبني بعد كل ذلك، منظومتك الذهنية العاطفية الخرافية الدفاعية احتراسا من بحر وسماء، من تنانين الماء والنار والهواء، إذا احتسبنا الأربعة عناصر، فيأتيك الشر من العنصر الذي أنت مجبول على الاطمئنان إليه بموجب مواجهة الثلاثة الباقين، التراب، الأرض، فهذا هو الزلزال. إشعارك في اليوم التالي على اختبارك له ولو عن بعد مئات الكيلومترات من مركز حصوله، في المسافة الفاصلة بين مرعش وبيروت، أن المشي على اليابسة «أصعب» من المشي على الماء، وأن النوم في العراء، مباشرة تحت القبة السماوية، أسلم من النوم في كنف الحجر.
في كتاب «المعادن والآثار العلوية» من قسم «الطبيعيات» في موسوعته العلمية – الفلسفية الكبرى، «الشفاء»، يرجح ابن سينا أن أكثر الزلازل تحدث ليلا. الليل، في الواقع، يعطي للزلزال قدرة رعب وتدمير أكبر، بصرف النظر عن انعدام الصلة السببية هنا. اللافت أن ابن سينا يقلل من احتمالات حصول الزلازل في الشتاء والصيف، إلا إذا كانت درجة الرطوبة في الشتاء أعلى من درجة البرد، أو تمادى الجفاف صيفا. «الزلزلة» لصيقة عنده أكثر بالاعتدالين الانتقاليين، الخريفي والربيعي.
في كتابه هذا، يخالف الشيخ الرئيس آراء من سبقه ممن أحال الزلزلة إلى حركة الهواء، أو إلى تدفق المياه الجوفية، ولا يأتي على حركة الكواكب إلا من باب أنه «ربما كانت الكسوفات سببا للزلازل». الأساس عنده أن «أكثر أسباب الزلزلة هي الرياح المحتقنة» في باطن الأرض. «بخار ريحي أو ناري قوي يتحرك فيحرك معه الأرض». وهو يزكي «البخار الريحي». مضى ألف عام على كتاب موسوعة «شفاء» ابن سينا. ألف عام مضى فيه العلم الجيولوجي في وثباته. اكشفنا معه أن اليابسة كانت قارة واحدة ثم تفرقت، والراجح أنها في مآلها تميل إلى التوحد مجددا، في الثلاثمئة مليون عام القادمة. لكن ابن سينا كان يعالج الأرض كما يعالج البدن. بتشخيص ما بها من رياح محتقنة. لم يكن جيولوجيّا.
كان فيلسوفا وطبيبا. أنصت إلى رياح تموج في البدن كما في باطن الأرض. لكن اللافت عنده أنه ما رأى في الزلازل لا أمراض تصيب قشرة الأرض، ولا حياة طبيعية لهذه القشرة. إنما احتقان يُفرَج عنه، وعلينا مكابدته.
لكن ابن سينا تحدث مع ذلك عن «منافع الزلازل». أوجزها في اثنين: «تفتيح مسام الأرض للعيون، وإشعار قلوب العامة رعب الله». هذا من موقع تقليد فلسفي ينطلق أساسا من تمييز معرفي جوهري بين ما تدركه الخاصة وما تحصل عليه العامة. لكن الزلزال كفيل بترجيف كل القلوب.
القدس العربي