يأتي خبر وفاة المحامي أليكسي
نافالني، وهو
المعارض الأشرس لنظام فلاديمير بوتين في العشرية الأخيرة، قبل شهر بالتمام من موعد الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية الروسية، التي من المزمع أن يتبارى فيها بوتين، عمليا، مع «لا أحد».
سبقت عملية «تقصير» حياة نافالني، المتوفى عن عمر 47 عاما، مسارا مأسويّا. بدأ هذا المسار بانتقال نافالني من التنديد بالفساد ضمن النخبة الحاكمة، إلى تجذير وإشهار مناهضته للنظام البوتيني برمّته، فكانت عملية تسميمه بمادة عامل الأعصاب «النوفيتشوك» ولجوئه العلاجيّ إلى ألمانيا، وإصراره من ثمّ على العودة بملء إرادته إلى بلاده، فاعتقل حال وصوله إلى مطار شرميتييفو بالعاصمة الروسية مطلع العام 2021. تظاهر عشرات الآلاف يومها احتجاجا، لكن أيّا من القوى السياسية المحتسبة «معارضة» لم تنهض للتنديد بهذا الاعتقال. حزب «يابلوكو» الليبرالي اعتبره قوميّا روسيّا شوفينيا، ومن ثم لا يستأهل الدفاع عنه، فيما صنّفه القوميّون والشيوعيّون الرّوس عميلا للغرب.
أمضى نافالني ثلاث سنوات بين زنزانة عادية وسجن انفرادي، قبل أن يُنقل، مع حرمانه للمرّة الثانية من التقدّم للانتخابات الرئاسية قبل بضعة أشهر، إلى صقيع سجن «الذئب القطبيّ»، وتنتهي قصته فيه، فيما كوكب الأرض يتلقّط الأخبار الواردة من كوكب
روسيا، مرة عن عميد شركة فاغنير يفغيني بريغوجين وقد انفجرت به طائرة، ومرة عن محام عنيد، توهّم إبان «الربيع العربيّ» أن هذا النوع من القومات الشعبية ضد النظم التسلّطية، هو موجة عالمية مثابرة وعاتية، قبل أن يتبيّن أنّه لا الربيع العربي استطاعَ أن يعمّر في البلدان التي اندلعت انتفاضاته فيها، فقوبل برجعة الاستبداد هنا، وبالانفجار المجتمعي هناك، وبخلطات من هذا وذاك. فقط في أوكرانيا، استطاعت الموجة الشبيهة بالربيع العربي، التي يحترف الإعلام البوتيني تسميتها «الثورات الملوّنة» أن تعمّر، إنما من خلال القالب القوميّ الذي وفّر للموجة التحرّرية حماية وبترا في وقت واحد.
لكن، هل يمكن أساسا حماية حركة من أجل حقوق وحريات ديمقراطية، من دون قالب قوميّ تندرج ضمنه هذه الحقوق والحرّيات؟
في الوقت الذي تنهى فيه حياة نافالني، لا يزال الكتاب الصادر في الشهر الماضي لعالم الاجتماع الفرنسيّ المفتون بالمناحي الديموغرافية، إيمانويل تود يلقى رواجا وأخذا وردّا، بدءا من عنوانه: «انهزام الغرب». فأطروحة الكتاب في هذا المجال، أنّ الحرب الأوكرانية مصيدة وقع فيها الغرب، وأنّ القوميين الأوكران هم عمليا من نصبوا للغرب مصيدة كهذه، حين تماهوا مع هذا الغرب بشكل ماعاد بإمكان نظام بوتين أن يميز بعده بين كييف وواشنطن.
يبني تود على رصيده «الرؤيوي»؛ فقبل ما يقارب النصف قرن، نشر تود (وهو حفيد الروائي والمفكر الشيوعي بول نيزان من جهة أمه)، ابن الخامسة وعشرين عاما آنذاك، كتابا تحت عنوان «السقوط النهائي»، توقّع فيه تفكّك الاتحاد السوفياتي في غضون ما بين «من خمس إلى ثلاثين سنة». بنى تود استشرافه هذا على المعدّل العالي للانتحار عند السوفيات، وارتفاع نسبة الوفيات بين الرضّع، وعدم الاتساق بين النظام التعليمي والهرم الاجتماعي، أي بالمجمل ربط انهيار النسق السوفياتي بتناقضاته ومشكلاته الداخلية.
بل إنّ تود يؤسس سرديته عن المصيدة الأوكرانية التي وقع فيها الغرب، بناء على استشرافه هذا الذي صنع شهرته في شبابه. يومها، لم يكن الرأي الغالب عند أساطين «السوفييتولوجيا» (حقل الدراسات حول الاتحاد السوفياتي وأصله وفصله ومآله)، يتوقّع انهيار هذه الإمبراطورية في ردح من الزمن، والقلّة التي توقّعت ذلك، ربطته إمّا باستفحال التعثر السوفياتي في محاولة اللحاق بالغرب، وإما بتصدّع في «الأطراف» ضمن الاتحاد السوفياتي (توقعت مثلا المؤرخة إيلين كارير دونكوس، أن يبدأ التفكّك من جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة، وظهر بالنتيجة أنّ هذه كانت الأكثر وفاء للفكرة السوفياتية وحتى الرمق الأخير)، وإما بتنامي كرة الثلج الاحتجاجية في أوروبا الشرقية.
تود كان من قلة القلة. توقّع الانهيار بدءا من الداخل السوفياتي، ومن المركز، وهذا ما حصل إلى حد بعيد. لكن تود يذكّرنا اليوم أنّه بدلا من أن يجري الاعتراف بذلك بعد نهاية الحرب الباردة، جرى طمس وقائع أن انهيار الشيوعية جاء من داخلها، لصالح السردية التي تقول بأن انهيارها جاء نتيجة لانتصار الرأسمالية الغربية، وفي الطليعة منها الولايات المتحدة الأمريكية عليها. هذا مع أن الولايات المتحدة يوم اندثار الاتحاد السوفياتي لم تكن في أحسن حال. بالعكس، أدّى ذلك إلى انهماك الأمريكيين والغربيين بملء الفراغ في ميزان القوى الذي خلفه اختفاء الاتحاد السوفياتي، دون أن يكونوا مستعدّين وقادرين أو متوقعين لذلك.
يبالغ إيمانويل تود في الفصل بين مشكلة داخلية ومشكلة خارجية. كما لو أنّ انفجار الاتحاد السوفياتي جراء تناقضاته الداخلية يقيم في واد منعزل عن وادي الحرب الباردة والاستقطاب على الصعيد العالمي. كما يبالغ في استعادة السردية التشاؤمية المعادة المكرّرة حول أفول الغرب، فهذه نجدها منذ كتاب داعية «الجامعة السلافية» الروسي نيكولاي دانييلفسكي «روسيا وأوروبا» 1871، التي ينسج فيها تعارضا عميقا بين «صدق» المسيحية الأرثوذكسية ورياء كل من «الكثلكة» و«البروتستانتية».
كتاب دانييلفسكي هذا، من المصادر الملهمة لصاحب «أفول الغرب» 1918 أوسفالد شبينغلر، المبني على التفريق بين «الثقافات الحية العليا» و«الحضارات» التي هي أشكال انحطاطية لهذه الثقافات بعد أن تكون قد بلغت أوجها، الذي ينطلق من هذا التفريق للقول؛ إن الثقافة الحيّة بلغت تمامها في الغرب، وليس من بعد الأوج سوى انحطاط «الثقافة الحيّة» إلى «حضارة». لقد شكلت سرديات «أفول الغرب» مصدرا مشتركا لكل من النزعة المعادية للأنوار الأوروبية داخل أوروبا، وللنزاعات المعادية للأنوار الأوروبية على تخوم أوروبا أو خارجها.
إيمانويل تود يستعيد بشكل أو بآخر هذا النوع من السرديات، عن استفحال النرجسية والعدمية والفردانية في الغرب، ويربط ذلك بتراجع مستويات الخصوبة.
في المقابل، رغم أن روسيا بلاد معنية أكثر من سواها بالعطالة الديموغرافية هذه، إلا أن إيمانويل تود يصرّ على أنها استطاعت أن تبقى بمنأى عن الشكل الأكثر قصوية من العدمية والنرجسية الذي أخذته ما بعد الحداثة، وأنّها في ظلّ قيادة بوتين لها، اكتشفت أن استقرار الأوضاع فيها ممكن حتى من بعد الويلات التي نكبت بها في التسعينيات، ويستدلّ تود على ذلك بانخفاض استهلاك الكحول وتراجع نسبة الانتحار في العشرين سنة الأخيرة، لا بل يصرّ الكاتب على أنّ موسكو خاضت حربها الحالية، في إدراك إلى ندرة العامل البشريّ لديها، وأنّها لذلك تحاول ما استطاعت تقنين نزيف شبابها على الجبهة، ولو تطلّب ذلك تقسيط انتصارها المحتوم بنظر تود، على خمس سنوات!
«انهزام الغرب» يتحوّل والحال هذه إلى دعاية، في معظم صفحاته، لنظام بوتين، ويجري تبرير كل ذلك على قاعدة أنه ما دام بوتين ليس بستالين جديد، وليس بمغفل، إذا فهو يحمل عقلا سديدا، والغرب هو الذي بات عليه أن يعترف بهشاشته وضياعه وعقمه أمامه. يأتي في المقابل «نبأ نافالني» من الصقيع الكتبيّ، ليعطي فكرة أدق عن «الاستقرار الصلب» الذي ينسبه تود لروسيا، وهو استقرار لم يبق له من مؤسسة دستورية جديّة لا من قريب ولا من بعيد.
(القدس العربي)