نشرت صحيفة "
واشنطن بوست"
تقريرا أعده مراسلوها في
أوروبا وواشنطن، حول جهود الولايات المتحدة وأوروبا في ملاحقة وتفكيك خلايا
التجسس الروسية والكشف عن الجواسيس في أوروبا، لكن موسكو لا
تزال تحتفظ بقدرات واسعة رغم الملاحقات، بحسب المسؤولين.
وقالت الصحيفة إن الحرب في أوكرانيا أدت
إلى "حرب ظل" لملاحقة الجواسيس كان آخرها اعتقال المواطن الألماني آرثر
إيلر الذي جمع مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI)
معلومات عنه أثناء إقامته في فلوريدا، واعتقل حال وصوله إلى ميونخ قادما من
ميامي.
وكانت مهمة إيلر هي تجنيد وإدارة خلية
تجسس روسية في الصف الأعلى من المخابرات الألمانية.
فبالتوازي مع الدعم العسكري
الغربي لكييف والعقوبات الاقتصادية ضد موسكو، فقد شنت الأجهزة الأمنية الأمريكية
والأوروبية حربا سرية ضد شبكات وخلايا التجسس التي زرعتها
روسيا داخل الدول
الأوروبية. وجاءت العملية الألمانية التي شملت اعتقال مسؤول بارز في جهاز
المخابرات الخارجية الألمانية، بعد عمليات اعتقال وكشف عن عملاء روس في هولندا
والنرويج والسويد والنمسا وبولندا وسلوفينيا.
وتعتبر الجهود بمثابة ضربة حاسمة ضد
العملاء الروس، وجاءت بعد طرد جماعي لأكثر 400 مسؤول مخابرات من السفارات
الروسية في أوروبا العام الماضي.
ويحذر المسؤولون الأمنيون الأوروبيون
والأمريكيون من أن روسيا لا تزال تحتفظ بقدرات استخباراتية قوية رغم أن الحملات
الأخيرة عليها تسببت في أضرار فادحة لم تحصل منذ الحرب الباردة.
ويقول المسؤولون إن العملية فاجأت
موسكو وعطلت جهودها للتواصل مع عملائها والقيام بحملات تأثير ومعرفة التفكير
الأوروبي حول مواصلة الدعم العسكري لأوكرانيا.
ولو كان هذا صحيحا، فإن الحملات ضد
الجواسيس الروس هي من ضمن التداعيات التي فشل رجل المخابرات السابق فلاديمير
بوتين في توقعها.
ويقول أنتي بيلاتري، مدير المخابرات
الفنلندية الخارجية: "أصبح العالم مختلفا الآن لأجهزة المخابرات
الروسية"، وذلك بسبب طرد الدبلوماسيين وملاحقة الشبكات الروسية والجو العدائي
لموسكو في أوروبا، ما يعني أن قدرة الكرملين قد تراجعت بشكل كبير.
وحاولت روسيا التعويض عن النقص من خلال
الحرب الجاسوسية الإلكترونية والاستفادة من عبور اللاجئين لتجديد خلاياها. إلا أن
الجواسيس الجدد سيكونون بدون حماية السفارات الروسية.
وربما لم تكن لديهم التجربة والمصادر
والتدريب مقارنة مع الدبلوماسيين الذين أصبحوا شخصيات غير مرغوب فيها. وكإشارة عن
محاولات الروس اليائسة، فقد حاولت موسكو إرسال الجواسيس الذين تم طردهم إلى أماكن أخرى
من العواصم الأوروبية والتحقيق في نقاط الضعف بالتنسيق بين الخدمات الأمنية عبر
القارة.
وقال مسؤول غربي، إنه "ليس لدينا أي شك
حول استمرار الروس بالمحاولة". وقال المسؤول إن بلده شاركت المعلومات
المتعلقة بالجواسيس الذين طردتهم مع بقية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.. مشيرا إلى أن روسيا لم تنجح في إعادة أي منهم "حسب علمنا".
لكن الحالة الألمانية أثارت القلق من
قدرة روسيا الحصول على معلومات ثابتة وملفات من داخل واحدة من أكبر الأجهزة الاستخباراتية
في أوروبا، مع أن برلين قللت من الضرر في حوار مع حلفائها. لكن الجاسوس المتهم
استطاع الحصول على معلومات حساسة، بحسب المسؤولين الأمنيين.
وقبل اعتقال إيلر، فقد اعتقلت السلطات
غارستين لينك (52 عاما)، الذي عمل داخل الجهاز الواسع وكان مسؤولا عن وحدة جمع
المعلومات الفنية في بافاريا ومطلعا على الملفات الشخصية لموظفي الاستخبارات
الألمانية، إلى جانب استهداف شبكات المعلومات الدولية.
وكشفت ألمانيا عن الاختراق بمساعدة
دولة غربية أخرى لم تكشف عن اسمها. وكان حصول روسيا على ملف حساس سببا في عملية ملاحقة
بدأت في أيلول/ سبتمبر الماضي وركزت على لينك.
وكانت العملية مدعاة للحد من
المشاركة الأمنية الأمريكية والبريطانية وحكومات أخرى مع برلين.
وقال مسؤول أمني
من شمال أوروبا إن كل دولة تقوم بتقييم الضرر الخاص بها و"تفكر، ما هي المعلومات التي تشاركنا فيها وما هي المعلومات المتوفرة للروس؟".
وواجه الألمان سؤالا آخر حول وجود
متعاون مع لينك، وركزوا في التحقيق على إيلر تاجر الأحجار الثمينة المولود في
روسيا وعاش في بافاريا، حيث قضى لينك معظم حياته. وذكرت الصحافة الألمانية أن لينك
تعرف على إيلر بمناسبة اجتماعية عام 2021، لكن المقابلات التي أجرتها الصحيفة تشير
إلى أن شخصا من حزب البديل لألمانيا هو من قدمهما لبعضهما البعض، ما يطرح أسئلة
حول دوافع لينك المتطرفة.
ويقول مسؤول: "تم تحديد إيلر على
أنه الشخص المتعاون"، لكنه سافر في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي إلى ميامي مع
زوجته وابنته في إجازة طويلة لزيارة عائلتها هناك. وعاد في رحلة عمل في كانون
الأول/ ديسمبر الماضي. وعندها اعتقل لينك في 21 كانون الأول/ ديسمبر الماضي.
تلقى إيلر مكالمة من شخص في وحدة الاستخبارات
الفيدرالية (أف أس بي) حذره من أن حياته في خطر ونصحه بالسفر حالا إلى موسكو. لكنه
عاد إلى فلوريدا لقضاء عيد الميلاد، وسمحت السلطات الألمانية له بالسفر "لأن
المعلومات لم تكن كافية لاعتقاله" بحسب مسؤول أمني ألماني.
إلا أن التحقيق الذي أجراه مكتب (FBI)
غير كل هذا، وبعد معرفته بأن إيلر على علاقة باختراق الاستخبارات الألمانية، فإنه وضعه
تحت المراقبة ونسق مع الألمان. إلا أن رحلات إيلر المستمرة توقفت في 12 كانون
الثاني/ يناير الماضي عندما اعترضه عميل (FBI)
وهو يحاول ركوب الطائرة من ميامي إلى ميونخ. ووافق على التحقيق معه في مكان قريب
من المطار، وتخلى عن أجهزته الإلكترونية، اللابتوب والموبايل، وقدم معلومات مدهشة عن
صلته بالشخص في الاستخبارات الألمانية، وأنه حمل ملفات حساسة إلى روسيا
وعاد بمغلفات محشوة بالمال، ربما لـ لينك.
ولا يعرف ما إن كان إيلر هو من تطوع
بتقديم المعلومات، أم إنه أجبر، لكن المطلعين على التحقيق يقولون إنه قدم نفسه
كضحية تلاعب لينك. ورفض محاميه التعليق على التقرير.
وقال مسؤول أمريكي بارز، إن وزارة العدل
فكرت في توجيه تهم لإيلر في الولايات المتحدة لكن التهم ليس قوية وقررت تسليمه
لألمانيا حيث الأدلة ضده قوية هناك.
وأمر بمغادرة أمريكا وكان
بانتظاره في مطار ميونخ في 21 كانون الثاني/ يناير الماضي عملاء الاستخبارات
الألمانية مع أمر اعتقال.
واتهم لينك بإساءة استخدام منصبه
ومساعدة إيلر على اجتياز الحدود وفحص الملفات الأمنية، وأن هناك شخصا آخر ساعده في الخروج من مطار ميونخ. وكشف التحقيق أن إيلر جلب معه 100 ألف دولار لـ لينك.
لكن هناك ملامح من القضية لا تزال غامضة منها الرحلات المتكررة بين ميونخ
ونيويورك قام بها إيلر.
قضية إيلر ولينك تدور حول أوروبيين
عملوا لصالح روسيا، إلا أن السلطات الأمنية الأوروبية كشفت عن محاولات روسيا إرسال
مواطنيها بشكل خفي وبدون علاقة مع المخابرات أو السفارات. ففي هولندا اكتشفت
السلطات هناك شخصا يحمل جوازا برازيليا في مطار سخيبول بأمستردام جاء للعمل كمتدرب
في المحكمة الجنائية الدولية. وفي الحقيقة كان ضابطا روسيا اسمه سيرغي شيركاسوف، أرسلته المخابرات العسكرية الروسية قبل عقد إلى الخارج، وقضى سنوات في
البرازيل وبنى شخصية جديدة وهي مولر فريريا.
وتم إرجاعه إلى البرازيل حيث سجن بتهمة
التزوير، وتنفي روسيا أنه جاسوس وطالبت بعودته زاعمة أنه تاجر مخدرات مطلوب.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر الماضي اعتقل
روسي بتهمة التجسس بنفس ظروف شيركاسوف، حيث قدم ميخائيل ميكوشين نفسه على أنه خبير
بالقطب الشمالي بجامعة في شمال النرويج. وظل في الخارج وهو يطور غطاء لشخصيته
ولصالح المخابرات العسكرية الروسية.
وتقول الصحيفة إن مدى وسرعة الاعتقالات
تعكس التعاون بين دول أوروبا في مرحلة ما بعد حرب أوكرانيا. وقال مسؤول غربي بارز إن "شباط/ فبراير 2023 ليس مثل شباط/ فبراير 2021 أو 2019" ولم يعد هنا
تسامح في أوروبا.
ويعكس التطور في ملاحقة الجواسيس الروس
النشاط الأمريكي الذي أراد الاستفادة من مظاهر ضعف موسكو. وضخت أجهزة الاستخبارات
الأمريكية ما لديها من معلومات للأجهزة الأوروبية من أجل ملاحقة شبكات التجسس
الروسية، وهو ما شهرت بفضله مخابرات السويد والنرويج.
ولا يعرف في النهاية حجم الجهود في النشاط التجسسي الروسي في أوروبا، غير أن المسؤولين في السويد وفنلندا لاحظوا
غيابا لجهود موسكو في عرقلة طلبهما العضوية في الناتو.