الكتاب: نظرية القيم في الفكر المعاصر
الكاتب: صلاح قنصوة
الناشر: التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1،بيروت لبنان، 2010.
عدد الصفحات: 237 صفحة.
1
بات الحديث في القيم مشاعا، مشتركا بين الجميع، على مستوى الممارسة
اليومية في التعاملات الاجتماعية والتجارية وعلى مستوى الفكر والفلسفة أيضا. ولكن
هل أنّ القيم واحدة أم هي متباعدة تباعد الخلفيات التي تستند إليها؟ فمنها
الخلفيات المثالية التي تبحث في البعد الروحي الخالص، أو المادية التي تعمل على
الالتصاق بالواقع والمعيش والموجود منها، متغاير لا يكاد يجمع
بينه غير الأسلوب الحماسي لخطابه. فـ"يعتمد هذا الأسلوب السائد، على إشعال
حرائق هائلة في غابات الألفاظ، التي تنفجر في الجو كالألعاب النارية التي تزدان بها
السماء في أيام الأعياد والمهرجانات. وتقتضي بطبيعة الحال حماسا مشوبا كالذي يؤديه
الممثل على خشبة المسرح، ثم ما يلبث أن يذوي ويخفت مع إسدال الستار".
يحاول أثر "نظرية القيم في الفكر المعاصر" أن يجيب عن هذا السؤال مفصّلا البحث في طبيعة القيم وأنماطها ومصادرها. ولكن ألا نلمس في مقدمة الكاتب حماسا مشوبا؟ ألا يشعل بمقدمته الإنشائية هذه حريقا هائلا في غابات المصطلحات والمفاهيم، التي تعتمد عادة الأسلوب التقريري الرّصين؛ لأن الإنشاء قبس يلهب نيرانا مُحرقة للفكر والتدبّر المنطقي الهادئ؟
2
منذ بداية الأثر، يصرّح صلاح قنصوة بموقفه النّاقد للفلسفة الوضعية
المنطقية ولتصوّرها الخاصّ للقيم، فهي عنده مهوسة بالارتقاء بمنجز الفكر البشري،
كالنقد والفن، إلى مصاف العلم. ولذلك، فهي تمثل الوجه السلبي من الفلسفة المعاصرة، وحظوتها بين أتباعها لا تعود إلا إلى "استغلال الشعور بالإثم لدى الفلاسفة؛ لأنهم لم ينشؤوا علماء، أو لأنهم على الأقل ليسوا باحثين يكشفون عن معرفة يمكن
التحقق منها بأسلوب العلم ومنهجه".
أما الفلسفات الوجودية والماركسية والبراغماتية، أي تلك الفلسفات
التي تعمل على ضبط تصور قيمي كلّي، فتؤلف نظرة شاملة للإنسان والعالم معا، فهي
جميعا فلسفات فعل وعمل وتجربة. بمعنى أنها تستهدف الاستجابة لمطالب الإنسان على
أسس تتفق في تصورها وللواقع الإنساني، وإن اختلفت فيما بينها في تفسير الوجود
والعالم. فتتطلع إلى المستقبل آخذة بعين الاعتبار قدرة الإنسان على تغيير واقعه من
حوله، مقدّرة أن دور الفلاسفة لا يقتصر على تفسير الواقع، وإنما يتجاوزه إلى محاولة
تغييره.
لا تحاول هذه الفلسفات أن تقدّم عقيدة كاملة نهائية، وإنما تسلّم بأن
الحقيقة ليست مطلقة وأنّ كلا من الإنسان والعالم من حوله متغيّران. وعليه، فهي تعمل
على ضبط منهج مرن يسع الجديد من المعرفة، ويتغير معه وتقبل وفق هذا المنطق بإمكان
تجاوزها في المستقبل. "وهكذا، نجد أنّ فلسفة العصر تخترق أسوار مشكلاتها
الحقيقية لتحتضن كل مشكلات الإنسان المعاصر، على أساس منظور إنساني شامل مؤلف من
القيم، وينطلق مما هو كائن، متجاوزا إياه ومتطلعا إلى ما ينبغي أن يكون لمستقبل
الإنسان".
3
من وجوه احتراز الباحث على مواقف الطبيعيين من القيم، عملهم على ردّ
الفاعلية الإنسانية إلى عناصر بسيطة، واختزالها إلى وحدة تجريبية يسهل إخضاعها
لمقاييس المشاهدة والتجربة. فتتحول القيمة بذلك إلى مجرد واقعة علمية من بين وقائع
أخرى، تعينها الحتمية التي تشمل بنفوذها كل موضوعات العالم. أما أصحاب النزعة
البيولوجية، فيردّونها إلى القوانين التي تحكم الكيان العضوي، وأهمها قانون التطور
القائل بمبدأي الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح. ووجه احترازه على خلفيتهم يتمثّل
في وضع مسؤولية إنشاء القيم بيد القانون الطبيعي، وإغفال دور الإنسان في تغيير
العالم. فما يفرق الإنسان عن غيره، إنما هو تمرده على الطبيعة. والانطلاق من حاجات
الإنسان العضوية، كما يفعل أنصار هذا الاتجاه لتفسير كل فاعلية إنسانية، لن ينتهي
بنا إلى قيم إنسانية على الإطلاق. فللحيوان والنبات جميعا ما يماثل هذه الفعاليات.
ومن الطبيعيين من يصدر عن خلفيات نفسية، فيجعل للقيم وظيفة الاستجابة
للحاجات، فينقلونها بذلك من الوسيلة إلى الغاية التي تنشد في ذاتها لا لما ينتظر
منها. ويسحب المبدأ نفسه، رغم غموضه، على التفكير فيها من خلفيات اجتماعية. فأن
يكون الاجتماع أصل القيم ومصدر الإلزام، والمجتمع لا يمثّل مجموع الأفراد، وإنما
المركب الذي ينتج عن ائتلاف الأفراد في علاقات اجتماعية، يعني أنّ هذه القيم ناشئة
عن عقل جمعي متميز عن عقول الأفراد المكونين له. "وهو في هذا يشبه مركبا كيميائيا له خواصه، التي تختلف عن خواص عناصره المؤلفة له بتفاعلها معا. ولذلك لا
توجد القيم والمثل العليا عند الأفراد، بل في هذا المركب الكيميائي المنفصل
عنها". وعليه تنتفي مسؤولية الفرد، سواء حقق هذه القيم أو تمرد عليها. فهو
يمثّل إرادة العقل الجمعي الذي يلزمه بهذا الإذعان، أو ذاك العصيان في الحالين.
4
وتتطلّع الماركسية التي يصنّفها الباحث ضمن الفلسفات الطبيعية، إلى
نظام لا طبقي فيه تحل جميع مشكلات الإنسان. وتجعل لنظرية القيمة مستويين تبعا
لذلك. فيكشف الأول عن نشأتها في العمل الإنساني. ويكشف الثّاني عن اغترابها في
أيديولوجية تعكس بطريقة أو بأخرى، أسلوب الإنتاج القائم. فيشترك مع المواقف
الطبيعية الأخرى في التمييز داخل الفاعلية الإنسانية، بين بناء أدنى البقاء الكائن
العضوي أو اللذة أو اللبيدو أو المنفعة. ولكنّ مفهوم الحتمية الناشئ عن علاقات الإنتاج وفق تصوّر الفلسفة
الماركسية، يجعلنا نجد عسرا في فهم كيفية انسلاخ البعض عن مصالح طبقتهم والتعبير
عن مصالح طبقة أخرى. فليست القيم عندها، شأنها شأن كل مظاهر الأيديولوجية، سوى
انعكاس للمادة وانعكاس بعيد لأسلوب الإنتاج الذي يتشعب إلى قوى إنتاجية وعلاقات
إنتاج.
تتلخص آراء فلاسفة العصر على اختلاف مرجعياتهم في القول بأن القيم تتحقّق لأنها تتفق مع غاية الكون. ولهذا التفسير أن يكون سليما لو كانت لدينا أية فكرة عن غاية الكون هذه وقيمه.
فضلا عن ذلك، يرتد هذا التفكير المادي فجأة إلى ضرب من النزعة
المثالية. فمن مصادرات الفلسفة الماركسية، أنّ الطبقة العاملة من سيتحمل عبء نقل
المجتمع إلى المرحلة الشيوعية، وتحقيق القيم المثالية بالنتيجة. فيضفي على الطبقة
العاملة كل صفات الكمال، ويخلع عليها كل القيم التقليدية وكأنها تجسيد له. وفي هذه
المصادرة وفق الباحث، اعتراف مضمر من الماركسية بأن هناك قيما جاهزة تتمثلها
الطبقات الصاعدة على مر العصور. وهذا "لا يستقيم مع منطق منهج النظرية
الماركسية، ولا يكاد يفترق عن وقوف النظرية ـ في عرف أنصارها على الأقل ـ عند
المجتمع الشيوعي اللاّ طبقي، وتحميله كل آمال الإنسانية وأحلامها، وكأن الإنسانية
قد بلغت حالمة المطاف، فهذا حلم لا يختلف قط عن أحلام أصحاب اليوتوبيات القديمة، إلا من حيث المادة التي تبنى منها مدنهم الفاضلة".
5
يُعَد الوجوديون من أكثر الفلاسفة حديثا عن القيمة، فالإنسان عندهم
يتصرف وفقا لقيمه، ولكنه يتصرف في الآن نفسه ضد كلّ القيم المفروضة؛ لأنه غير
ملزم بالسّائد منها، مدعوّا لخلق ما يلزمه في كل لحظة وعند كل موقف. فهي إبداع متصل
وخلق متجدد. وهي تفقد عندهم ماهيتها حينما تكرر وتثبت. ويتساءل صلاح قنصوة: "أين هي القيمة إذن إذا ما كانت تنكر في عين اللحظة التي تخلق فيها؟ إن الفرد
ليتحول عند الوجودية إلى "إله" يخلق نفسه والعالم كل لحظة، فحريته
مطلقة، وهو محكوم عليه بهذه الحرية، فهذه هي مجانية Gratuité الوجود التي
تنكشف في عبثه ولا معقوليته؛ لأن وجود بغير أساس".
6
تتلخص آراء فلاسفة العصر على اختلاف مرجعياتهم في القول بأن القيم
تتحقّق لأنها تتفق مع غاية الكون. ولهذا
التفسير أن يكون سليما لو كانت لدينا أية فكرة عن غاية الكون هذه وقيمه. أضف إلى
ذلك، أنّ فارقا هائلا يفصل بين غاية الكون وقيمه؛ "لأن المعنى في الحالتين ليس
هو بعينه"، ولأن القيم "لا تصف الطبيعة أو الكون، بل تصف أفعال الإنسان
وموقفه من العالم". ولكن ما القيمة وكيف تُحدّد إذن؟
يخلص الباحث من خلال استقرائه لمختلف الأنساق الفلسفيّة، إلى أنّ ما
يحدد محتوى القيم إيجابا أو سلبا، هو الإجماع الإنساني الذي تُدركه الإنسانية
بأسرها بالحس المشترك، أو أمة بعينها، أو طائفة خاصة، إلى غير ذلك من درجات
التفاوت. ويتبنى موقف جورج مور القائل بأن "القيمة لا تقبل التعريف؛ لأنها
مطلقة البساطة، ولا يمكن تحليلها إلى عناصر وأجزاء، ونحن إما ندرك قيمة الشيء أو
لا ندركها، وليس من وسيلة لتفسيرها غير خلطها بغيرها من الصفات". ثم يبحث في
الفلسفة والدين والفن والعلم، فيجد فيها موقفا قِيميّا موحّدا، يدعو إلى تحقيق
التآزر ويعمّق جذوره في النفس.
7
يتنزّل هذا الأثر ضمن نقد فلسفة الحداثة وما خلقت من أزمات قيمية، بعد
أن بشّرت كثيرا بتحرير الإنسان؛ فقد ظهرت إثر ما شهده الغرب من الثورات على أنظمة
الحكم المطلق، وما رافق ذلك من ظهور للمجتمعات الصناعيّة (بريطانيا العظمى، فرنسا،
هولندا)، وارتبط خطابها بالدعوة للتّحرّر عامّة؛ (تحرّر الشعوب من الاستعمار، أو
تحرر الطبقات المستضعفة من هيمنة الطبقات القوية، أو تحرّر الفرد من سلطة العائلة
ومركزية دور الأب، أو تحرّر المرأة من الهيمنة الذكورية، أو التحرّر من التقاليد
القديمة في الكتابة والإنشاء)، وبالجملة مثلت وعدا بالعمل على التحرّر من الأساليب
التقليدية في الحكم، وفي الحياة، وفي الإبداع في آن.
يحاول صلاح قنصوة أن يجعل القيم اختراقا للحدود التي تكبّل الإنسان ضمن الإيديولوجيات الضيقة والممارسات المحدودة؛ بحثا عن إنسانية الإنسان التي باتت مهدّدة بالتلاشي في عصر المادة واقتصاد السوق والقيم، التي غدت منتجا من منتجاته الكثيرة.
ومن ثمّة، دارت تعريفاتها على فكرة تدمير النظم التقليدية، وعلى
العقلنة التي تقطع مع الغائية الدينيّة حتى يكون الإنسان سيدا لمصيره. فيبحث عن
حلول لمشاكله عبر علاقات أفقية (الإنسان ـ الإنسان)، بدل البحث عنها في السّماء وفي
العلاقات العموديّة. فتُحلّ العلم مكان الأقدار، وتقصر المعتقدات الدينيّة على
الحياة الخاصة للفرد. وهذا ما جعل ماكس فيبر يعلن أنّ منجز حركة الحداثة، يتمثّل
خاصّة في الفصل بين الدّين من ناحية، والدولة المنظّمة لمختلف وجوه الحياة
الاجتماعيّة من ناحية ثانية، وأنّ هذا المنجز مثّل دافعا لبروز الثقافة العقلانية
على مستوى المنهج والممارسة معا.
ولكنّ حاصل تحديث المجتمعات كان مفارقا لهذه الأحلام اللذيذة، فسريعا
ما ظهرت الآراء النّاقدة المتهمة للثّورة الصناعية بتخريب البيئة والطبيعة
والمتهمة للثورة الاجتماعية بتدمير بنية المجتمع والعائلة، وتهميش الفرد واستلابه
وجعله في تبعيّة للمؤسسات الامبرياليّة. ومن هنا تعالت الأصوات معلنة إفلاس
الحداثة، منادية بنقد العقل الغربي ومراجعة قيمه. وأخذ الانبهار بمنجز الحداثة
يتراجع ليترك المجال إلى تصورات ناقدة معدّدة لسلبياتها؛ فقد اتهمت بهتك الحياة
الروحيّة للإنسان والمس ببعده البشريّ وتشييئه. ولا ترى هذه التصورات من منجز لها
سوى تحويلها للمجتمعات إلى سوق كبير لا سلطان فيه إلا للمال، وهذا ما كرّس الظلم
الاجتماعي واستلب الأفراد بدل تدمير البنى التقليدية للفكر.
من هذا المنطلق إذن، ظهر مفهوم المعاصرة ومداره على تحرير الإنسان
التحرير الصحيح. فيعمل على تخليصه من التمترس بتصوّر محدّد للوجود والرؤى والمناهج
والمدارس يأسر أكثر ممّا يحرر.
ضمن هذه الآفاق، يحاول صلاح قنصوة أن يجعل القيم اختراقا للحدود التي تكبّل الإنسان ضمن
الإيديولوجيات الضيقة والممارسات المحدودة؛ بحثا عن إنسانية الإنسان التي باتت
مهدّدة بالتلاشي في عصر المادة واقتصاد السوق والقيم، التي غدت منتجا من منتجاته
الكثيرة.