سلطت صحيفة "
وول ستريت جورنال" الضوء على مدينة
أنطاكيا التاريخية في تركيا، والتي دمرها
الزلزال الشهر الماضي، وكانت ثالث أكبر مدينة في حقبة الإمبراطورية الرومانية.
وقاومت المدينة التاريخية صعود وسقوط
الحضارات لمدة 2400 عام، حيث عادت إلى البناء بعد الحروب والحصار والأوبئة. وهي الآن تواجه تحديا ينافسها في تاريخها بعد أن عانت من دمار شبه كامل من زلازل الشهر الماضي.
قبل أربعة أسابيع، كانت أنطاكيا عاصمة إقليمية مزدحمة يسكنها 400 ألف نسمة محصورة بين البحر الأبيض المتوسط والحدود الجبلية لتركيا مع سوريا، والمعروفة بمأكولاتها الحارة والكنائس والمعابد اليهودية والمساجد التي يعود تاريخها إلى قرون.
أما اليوم، فإن المدينة المعروفة سابقا باسم أنطاكية، هي عبارة عن خراب من الخرسانة حيث تنقب الكلاب الضالة بين الأنقاض ويتجمع السكان القلائل المتبقون معا، فيما يقوم جنود أتراك يرتدون قبعات زرقاء بدوريات في الشوارع، وبنادقهم الرشاشة مغطاة بالغبار من جبال الأنقاض.
عانت أنطاكيا من الدمار الذي خلفه الزلزال المزدوج الذي ضرب تركيا وسوريا في 6 شباط/ فبراير، ما أسفر عن مقتل أكثر من 51 ألف شخص وترك عددا لا يحصى من الآخرين في عداد المفقودين.
وتم تدمير ما لا يقل عن نصف مباني المدينة في الزلازل المدمرة، وحوالي 80 بالمئة من المباني في ولاية
هتاي بحاجة إلى هدم وفق رئيس بلديتها.
وفي جميع أنحاء المدينة القديمة دمرت المباني، بما في ذلك الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية التاريخية ومسجد تم بناؤه في أوائل القرن الثامن عشر، وبالقرب منها مسجد حبيب النجار في حالة خراب.
وكان المسجد، أول مكان عبادة للمسلمين تم بناؤه في منطقة الأناضول، وقد تم تشييده منذ ما يقرب من 1500 عام. ودمره زلزال وأعيد بناؤه في القرن الـ19، ودمر مرة أخرى، وسقطت مئذنته الآن، وانهارت قبته، وتصدعت جدرانه.
وفر معظم سكان أنطاكيا، إذ لا يوجد في المدينة مياه جارية ولا كهرباء ولا تدفئة ولا متاجر لبيع المواد الغذائية ولا آفاق فورية للعودة إلى الحياة الطبيعية.
وقال جوزيف ناصح، 69 عاما، عالم الآثار المسيحي الذي ولد وعاش حياته كلها هنا في المدينة: "لا يمكن إعادة بناء هذا المكان المقدس".
ويعد التدمير شبه الكامل لأنطاكيا بمثابة ضربة مدمرة لتركيا والشرق الأوسط الأوسع. فقد كانت موطنا للمسلمين الأتراك والمسيحيين واليهود، وحافظت على التعددية الثقافية في العالم القديم.
وحتى قبل انتفاضة عام 2011 والحرب الأهلية في سوريا التي دفعت أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ إلى الاستقرار في تركيا، كان العديد من سكان مقاطعة هتاي يتحدثون اللغتين التركية والعربية، وهو أمر فريد من نوعه في بلد يفخر فيه الرئيس رجب طيب أردوغان والعديد من النخب الأخرى بالتحدث بلغة واحدة.
وقد فرت الجالية اليهودية بأكملها من المدينة، ما قد ينهي وجود اليهودية التي يعود تاريخها إلى أكثر من ألفي عام في أنطاكيا.
وتوفي كل من زعيم الجالية وزوجته. وتم دفنهم بعد أيام في إسطنبول، حيث استقر يهود أنطاكيا الآخرون.
وغادر آخرون أيضا، بما في ذلك جميع الطوائف المسيحية الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية في المدينة تقريبا، وعلويون عرب وعشرات الآلاف من اللاجئين السوريين، ومئات الآلاف من المسلمين السنة الأتراك الذين عاشوا مع بعضهم.
وتعهد أردوغان بإعادة بناء جنوب البلاد بأكمله في غضون عام واحد، مع بدء بناء 200 ألف منزل الشهر المقبل.
ويقول مسؤولون محليون وجماعات مجتمع مدني وأصحاب أعمال إنهم يتوقعون إعادة بناء المدينة بشكل ما، لكنهم يخشون أن تفقد بعضا من طابعها الثقافي الغني. وعدم عودة العديد من سكانها مرة أخرى.
وتأسست أنطاكيا على ضفاف نهر العاصي قبل حوالي 300 قبل الميلاد، على يد سلوقس نيكاتور، أحد قادة الإسكندر الأكبر.
وكانت أنطاكيا ذات يوم عاصمة المقاطعة الرومانية في سوريا، وبنيت لتصبح مدينة كبرى من المسارح والقنوات والحمامات.
كانت أيضا مركزا للقوافل التي تربط آسيا بعالم البحر الأبيض المتوسط في ما أصبح يعرف باسم طريق الحرير.
وتغيرت السيطرة على أنطاكيا أكثر من ست مرات، وحكمت في نقاط مختلفة من قبل الإمبراطوريات الرومانية والبيزنطية والفارسية والسلجوقية والإسلامية الكلاسيكية والعثمانية والفرنسية، إلى جانب احتلال الصليبيين والمماليك. وفي كل مرة، حتى بعد الحروب والحصار، جددت المدينة نفسها.
وبعد سقوط روما في القرن الرابع، ازدهرت أنطاكية في ظل الإمبراطورية البيزنطية وأصبحت آنذاك مركزا عالميا للتجارة والقوة العسكرية والدين وبناء الدولة.
ووقعت سلسلة من الكوارث في القرنين السادس والسابع، بما في ذلك حرائق وأوبئة. وفي عام 526 تم تدمير أنطاكية القديمة في واحدة من أسوأ الزلازل التي تم تسجيلها على الإطلاق، ما أسفر عن مقتل حوالي 250 ألف شخص. واشتعل يوما حريق التهم المدينة بأكملها. ووصف المؤرخون البيزنطيون الكارثة بأنها علامة على الغضب الإلهي.
وأطاحت زلازل أخرى في القرن السادس بكاتدرائية أنطاكيا ذات القبة العظيمة. وقام الأباطرة البيزنطيون المتعاقبون ببناء كنائس وكاتدرائيات جديدة، وأعادوا حمامات المدينة ومهدوا الطريق لعودة الحياة.
وازدهرت المدينة بإنتاج الفواكه والخضروات والتمور وزيت الزيتون، وجذبت هتاي المعاصرة المثقفين وأصحاب المتاجر والمطاعم بسبب المناخ الدافئ في المنطقة وتقاليدها المنفتحة.
على مدار العقد الماضي، استقر عشرات الآلاف من السوريين في المدينة وحولها، حيث كانوا يعيشون بين السكان الناطقين بالعربية في منطقة تركية كانت سوريا قد ادعت ذات يوم أنها تابعة لها.
والآن عانت أنطاكيا الحديثة من صدمة الزلازل، التي أطاحت بالأبراج وسحقت المباني الحجرية القديمة.
وقال فرانسيس دوندو، وهو كاهن كاثوليكي من الهند يعيش في تركيا منذ عام 2007 ويقود جماعة صغيرة في مدينة أنطاكيا القديمة: "دمر هذا الزلزال كل ما نعتز به".