فصَّلنا في مقالين سابقين
تعريفا للمثقف، ثم بيَّنّا في مقالين تاليين عليهما؛ الفارق بين المثقَّف الأصيل
وذلك المُنْبَتّ، تمهيدا لتناول مسألة هجرة المثقَّف من موطنه، بوصفها المنطَلَق
الذي دعانا ابتداء إلى تعريفه، وبيان دوره ومسؤوليته؛ ليتسنَّى لنا تبيّن الحال
التي يجوز للمثقف
الهجرة فيها، مُخلفا موطنه، وتاركا خلفه مكمن قوَّته وخارطة
عمله وساحة حركته: مجتمعه.
وما ذلك إلا لأن المثقَّف
الأصيل لا يُهاجر سعيا وراء الحياة في بلد أجمل، ولا بيئة أكثر رفاهة؛ فإن
البيئة المحيطة (المجتمع) تُمثِّلُ للمثقَّف الشيء الكثير، الذي يتجاوَزُ بها هذه
الأعراض البرانية المتغيِّرة وأشباهها. إذ تمثِّلُ البيئة/ المجتمع ذاكرة
المثقف،
ومكونات وعيه، وجذور تكوينه وحركته؛ أي إنها تُعَدُّ جزءا لا يتجزأ من شخصيته
الفعالة، خصوصا حين تستوي ناضجة في البيئة عينها. هذه التُربة التي يَمُدُّ
المثقف فيها جذوره، هي عينها الغذاء الذي يكتسبُ منه قوَّته، وهي علاقة لا هيمنة
للأبعاد الماديَّة البرانية فيها، بقدر هيمنة الأبعاد الجوانية الروحية. بمعنى أن
العلاقة العضويَّة للمثقَّف الأصيل ببيئته لا علاقة لها بالعرق ولا بالأصول
الإثنية وارتباطها بالأرض، كما في كل الوثنيات القديمة والحديثة؛ وإنما تنبني
بالأساس على روح الثقافة التي تتبلور في الزمكان، وتصبغ أهله بصبغة واضحة؛ تختلط
فيها المكونات والمؤثرات. لهذا؛ كان انخلاع المثقَّف من بيئته أشق كثيرا من
انخلاع غيره، الذي لا يرتبط ببيئته مثل هذا الارتباط، ولا يستمد قواه منها، فصار
المثقَّف أبعد الناس عن التاجر، الذي يرتحل وراء الرزق أنَّى كان.
العلاقة العضويَّة للمثقَّف الأصيل ببيئته، لا علاقة لها بالعرق ولا بالأصول الإثنية وارتباطها بالأرض، كما في كل الوثنيات القديمة والحديثة؛ وإنما تنبني بالأساس على روح الثقافة التي تتبلور في الزمكان، وتصبغ أهله بصبغة واضحة؛ تختلط فيها المكونات والمؤثرات. لهذا؛ كان انخلاع المثقَّف من بيئته أشق كثيرا من انخلاع غيره، الذي لا يرتبط ببيئته مثل هذا الارتباط، ولا يستمد قواه منها.
هذا الارتباط بالجغرافيا
ليس ارتباطا ماديّا عضويّا حتميّا، وإنما هو وثيق الصلة بارتباط المثقَّف
بالتاريخ، بالذاكرة؛ التي تعمل أكثر آلياتها في إطارها الجغرافي المتعين، أفضل مما
تعمل خارجه، خصوصا حين ترتبط بالتحديات التي يفرضها ارتباط التاريخ والجغرافيا في
نقطة معينة؛ نقطة تجعل المثقَّف أشبه شيء بشجرة لا تنمو إلا في بيئتها، فقد تموت
إذا اقتُلِعَت وأعيد استنباتها في بيئة أخرى، وقد تنمو بخصائص مُغايرة؛ لا تُغيِّر
طبيعتها ولا فصيلتها، وإنما تُغير تركيبة ثمارها بتغيُّر التربة التي تُغذيها. وهذا
هو ما تجلَّى نماذجيّا في تغيير الشافعي لأصول مذهبه وفروعه، حين انتقل من العراق
إلى مصر، وهو ما ينطبق كذلك على السيد جمال الدين الأفغاني -الذي كان يُعيد صياغة
رسالته، بحسب البيئة التي ينزِل فيها-، بوصفه مثقفا أمميّا من جنس الشافعي،
رحمهما الله.
لقد ظلَّ الشافعي فقيها أصوليّا كما ظل الأفغاني متكلِّما فيلسوفا، لم تتغيَّر طبيعة المثقف المسلم
الملتزم بتغيّر البيئة، لكن تغيَّر النهج وزاوية النظر، وتغيَّرت الإشكالات محل
النظر، وتغيَّرت مآلات النظر بتغيّر البيئة التي تتلقى الرسالة، واختلاف
إشكالاتها النسبي. وهو تغيّر طرأ حتى على مثقَّف "أممي" مُشرِك مثل
لينين، فالمتأمل لتاريخ تطوره الفكري؛ يجد اختلافا كبيرا بين تصوراته في المهجر
الألماني وتصوراته حين عاد إلى روسيا على رأس البلاشفة.
وإذا كان المثقَّف الأممي
مثقفا أصيلا قادرا على إعادة استنبات رسالته في بيئة جديدة، خصوصا إذا تخفَّف روعه من
أثقال الدولة القومية الحديثة؛ فإن هذا الاستنبات الجديد يكون أشبه شيء بفقدان
الذاكرة، ذاكرة التفاصيل والإجراءات والفروع، وأحيانا الأصول التي ترتبط في
تركيبها بالبيئة واحتياجاتها؛ ليبني ذاكرة جديدة على نهج جديد. بيد أن المثقف
الأصيل كان أقدر كثيرا على هذه الحركة الفعَّالة قبل الحداثة، وترسُّخ قيود
الدولة القومية الحديثة -حتى في اللا وعي-، التي أثقَلَت روحه وشوَّشت على وجهته
الأممية بأثقال السياج والمرعى وحدودهما القُطريَّة؛ التي دفعت المثقَّف الحديث
دفعا لإعادة صياغة إطار رسالته وآليات عملها تضييقا وتقييدا.
إن المثقَّف الحديث، الذي
هجر موطنه إلى غيره، مُضطرا أو ساعيا خلف عَرَض الدنيا، هو قطعا مُثقف
مُنْبَتّ؛ خرج مشوَّها بغير وعي بحجم تشوهه، ولا بكيفيَّة استعادة دوره الأممي
وأصالته مرة أخرى؛ إذ إنه عجز عن أداء بعض دوره القُطري وهو سجين بلده -كونه مُنْبَتّا-، فخرج بهذا العجز إلى غيره؛ ساعيا لا إلى إعادة استنبات نفسه ورسالته، وإنما إلى
الارتزاق بادعاء حمله لرسالة المثقف ومسؤوليته؛ فهذا أيسر كثيرا، فإن ادعاء
المُنْبَتّ للأصالة أيسر كثيرا من الاجتهاد الشاق المضني، لاكتساب شيء من هذه
الأصالة في بيئة أخرى. وقد طمع أن يستر عجزه في البيئة الجديدة بعد أن استتر به في
بلده.
المثقَّف الحديث، الذي هجر موطنه إلى غيره، مُضطرا أو ساعيا خلف عَرَض الدنيا، هو قطعا مُثقف مُنْبَتّ؛ خرج مشوَّها بغير وعي بحجم تشوهه، ولا بكيفيَّة استعادة دوره الأممي وأصالته مرة أخرى؛ إذ إنه عجز عن أداء بعض دوره القُطري وهو سجين بلده -كونه مُنْبَتّا-، فخرج بهذا العجز إلى غيره؛ ساعيا لا إلى إعادة استنبات نفسه ورسالته، وإنما إلى الارتزاق بادعاء حمله لرسالة المثقف ومسؤوليته؛ فهذا أيسر كثيرا.
وإن القاسم الأعظم من
نجاح عمليَّة إعادة الاستنبات هذه؛ يعني الحفاظ على القيم الأساسية، وعلى الوجهة،
مع تغيّر النهج والإجراءات والمآلات الدنيوية. وبعبارة أخرى؛ فهو إعادة صياغة
للتحديات اليومية في حياة المثقف، حتى تحفظ عليه رسالته وعقله، وتكون من الله مددا؛
يجعل عمله كأنه جهاد ممتدّ على منوال واحد. بيد أن المثقف الذي يعجز عن إعادة
صياغة هذه التحديات، يواجه أزمة تتجاوز النهج والإجراءات؛ يواجه أزمة هويَّة. فإن
العجز عن إعادة صياغة التحديات يعني أن القيم الأساسية قد سقطت بمجرَّد الهجرة،
فتحوَّلت الوجهة من السماء إلى الأرض. وهذا ما حدث ويحدُث -للأسف- في هجرات المثقفين كافة إبَّان القرن العشرين، إلا قلَّة قليلة ممن رحم ربي.
ومن الأمثلة الفجَّة على عجز المثقف الحديث عن
إعادة صياغة التحديات، أزمة المخرجين السينمائيين الإيرانيين؛ الذين تركوا بلادهم
فرارا إلى المهجر -من عباس كياروستمي إلى بهمن قبادي-، فتسطَّح نتاجهم تماما، وصار
كأنه غُثاء مُقزز، إذ افتقد إلى التحدي الذي كان يُجبرهم على التركيب والتعقيد،
وبث الرسائل بين السطور، أو بعبارة أخرى؛ كان يحملهم على الصياغة الفنية الحقيقية.
بل الأنكى أن نتاجهم قد صار محض صياغة جديدة لـ"أيديولوجية عدميَّة مضادة"
لأيديولوجية النظام السياسي، بيد أنها صياغة شديدة السطحية والغثاثة. لقد تميَّز
هؤلاء المخرجون جميعا -الذين كانوا علمانيين منذ اليوم الأول- بنتاج فني في منتهى
العذوبة والتركيب قبل أن يخرجوا من إيران، وذلك لأنهم استطاعوا الاستجابة فنيّا للضغوط السياسية، والالتفاف حولها لصياغة الرسالة الفنية، وهو الجوهر التركيبي
لعمليَّة الإبداع ذاتها. وهذا ينطبق للأسف على أكثر من هجروا تحدياتهم المحلية،
فعجزوا عن إعادة صياغة التحديات في بيئتهم الجديدة، واستسلموا للرفاه والدعة في
المهجر؛ فتخنَّث نتاجهم إنسانيّا، وانحدر إلى مرتبة سائلة مُزعجة، لا إنسانية في
غثاثتها.
وعندي أن السبب الأهم في هذه الأزمة، هو أن المثقف
يفقد مقدرته النقدية والتفكيكية والبنائيَّة، حين يترك سياقه اللغوي
والسوسيومعرفي، ويتحوَّل إلى مجرد مرتزق في سياق غريب. فإن قوته مرتبطة بألفته
الوثيقة للسياق الذي يتحرَّك فيه، خصوصا حين يكون البلد الأصلي الذي كان يتحرَّك
فيه بلد مركزي في رابطته الأممية. ومكمن قوة أي مُشتغل بعمل دعوي أو ثقافي؛ هو امتلاكه
لناصية أدوات الحركة داخل بيئته. فإن شاء الحفاظ على هذه القوَّة؛ جاءت هجرته حركة
واعية داخل البيئة نفسها، لا خارجها، ولاحظ أن الهجرة الإسلاميَّة الأولى إلى
الحبشة كانت قصيرة مؤقَّتة، بينما كانت الهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة
المنورة هجرة إلى الاستقرار. وهو ما يُمكن القياس عليه بتفضيلنا هجرة المثقف
المسلم (الأممي بفطرته وإن تشوَّهت) داخل ديار الإسلام، لا من ديار الإسلام إلى
دار الكفر. فإن بيئة ديار الإسلام -على تشوهها اليوم تشوها شديدا- أعوَن على
إعادة الاستنبات من ديار الكفر، التي تُشجع المُنْبَتّ؛ أي "المندمج"
الذي لا دين له ولا هوية.
twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry