أجرى الخبير في شؤون الخليج ديفيد شينكر، في معهد واشنطن، تقييما بشأن اتفاق "
الترسيم البحري" بين دولة الاحتلال ولبنان العام الماضي، مشيرا إلى أن تحسين الأمن
الإسرائيلي على المدى الطويل لم يكن احد أسباب التوصل للاتفاق.
وقال
الخبير الأمريكي، إن إنجاز ترسيم
الحدود البحرية بين "إسرائيل" ولبنان، توّج الجهود الدبلوماسية بنظر إدارة بايدن. وقد حقق نجاح وساطة كبير المستشارين لشؤون أمن الطاقة، آموس (عاموس) هوكستين، في الوقت الذي عجزت فيه الإدارات الأمريكية المتعاقبة على تحقيقه.
ووصف هوكستين الاتفاق عندما عرضه بأنه مكسب للبنان وإسرائيل على حد سواء، إذ يقدّم للبنان، الدولة الغارقة في أزمة اقتصادية مدمرة، احتمال تحقيق إيرادات كبيرة في النهاية، في حين تحصل إسرائيل بفضله، وفق هوكستين، "على الاستقرار" و"الأمن الشامل".
واتفق رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت يائير لابيد و"الجيش الإسرائيلي" مع تقييم هوكستين.
وفي الواقع، يشير سياق الصفقة وتوقيتها وكذلك شروطها الفعلية إلى أن الاتفاق البحري قد يؤدي في أحسن الأحوال إلى تهدئة التوترات مؤقتا بين تل أبيب وحزب الله
اللبناني المدعوم من إيران على طول الحدود البرية والبحرية، وقد يؤخّر - ولكن لا يمنع في النهاية - اشتعال الوضع في المستقبل.
وتم التوصل إلى الاتفاق في لحظة تصاعد التوترات بين "إسرائيل" وحزب الله. ففي السنوات الأخيرة، زاد الحزب عدد قواعده العسكرية الواسعة النطاق أساساً التي أقامها على طول الحدود والتي موهها تحت راية المنظمة البيئية غير الحكومية "أخضر بلا حدود" التابعة له، وصعّد هجماته على قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة التي تقوم بدوريات في المنطقة.
وخلال هذا الإطار الزمني، وسّع مسلحو الحزب بالمثل القدرات الدفاعية الجوية مقابل "سلاح الجو الإسرائيلي". وأصبح حزب الله ينشر أيضا وحدات القوات الخاصة التابعة لكتيبة "الرضوان" بطريقة ظاهرة للعيان في المنطقة الحدودية.
وفي الوقت ذاته، هدد حزب الله في الأشهر التي سبقت التوقيع على الاتفاق البحري في تشرين الأول/أكتوبر 2022 بمهاجمة الوحدة العائمة لإنتاج الغاز "إنرجيان" في "حقل الغاز الطبيعي البحري الإسرائيلي
كاريش"، إذا بدأت إسرائيل بالضخ قبل أن يتم التوصل إلى اتفاق.
وفي تموز/ يوليو، أسقط "الجيش الإسرائيلي ثلاث طائرات بدون طيار أطلقها حزب الله لمراقبة "إنرجيان". وكانت إسرائيل قد أعلنت في وقت سابق أنها ستبدأ الضخ في أيلول/ سبتمبر بغض النظر عن حالة المفاوضات. ومع ذلك، وتحت وجود تهديد بشن هجوم (على حقل الغاز)، فإنها أخّرت الاستخراج لما يقرب من الشهرين.
وبالنسبة لتل أبيب، فيبدو أن الضغوط التي تُمارَس على طول الحدود والتهديد باندلاع حرب بحرية قد زادت من إلحاح التوصل إلى اتفاق على طاولة المفاوضات. وهذه هي الرسالة التي يروجها بالتأكيد مسؤولو حزب الله.
وكما قال أحد المتحدثين باسم حزب الله لصحيفة "واشنطن بوست" في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر: "سرّعت الطائرات المسيّرة المفاوضات... لولا بندقية نصر الله التي وُضعت على رأس الحكومة الإسرائيلية، فإنه لم يكن من الممكن التوصل إلى (اتفاق)".
ورأى الخبير الأمريكي أن "تعليقات حزب الله كاذبة جزئيا، فهو ليس فخوراً بتوقيعه الاتفاق، وهو أمر ضروري في ظل التدهور الاقتصادي في لبنان. وقد أضرت موافقته عليه بسمعته. ومع ذلك، فإنه يمكن له أن يؤكد بمصداقية أن التهديد بالتصعيد لم يؤخر فقط استخراج الغاز الإسرائيلي، لكنه أسفر عن اتفاق كانت الشروط فيه مواتية للغاية للبنان. وهذه الرسالة، إذا استوعبها حزب الله أساساً، فإنها يمكن أن تزيد من جرأة الحزب".
وفي الاتفاق، قبلت تل أبيب بموقف لبنان الأولي في المفاوضات وتنازلت عن مجمل مطالبها المتعلقة بالمنطقة الاقتصادية الخالصة ومنحت لبنان أكثر من 854 كيلومتراً مربعاً من المنطقة المتنازع عليها.
وفي المقابل، ستبقى الحدود البحرية القائمة بحكم الأمر الواقع والممتدة على طول الكيلومترات الخمسة الأولى المتاخمة للشريط الساحلي على ما هي عليه، وهو تطور قال وزير الجيش الإسرائيلي آنذاك بيني غانتس إنه سيضمن حرية "إسرائيل" في العمل قبالة الساحل.
وتضطلع حرية التصرف هذه بأهمية لا يمكن تجاهلها، ولكن تاريخياً، تجلّى بشكل أساسي التحدي الذي يمثله «حزب الله» لإسرائيل على طول الحدود البرية المعروفة بـ"الخط الأزرق". ومن الصعب على أي حال فهم كيف أن إضفاء الطابع الرسمي على هذه الكيلومترات الخمسة من الحدود البحرية الحالية سيجعل تل أبيب أكثر أمانا على نحو ملموس.
ونوه الخبير الأمريكي إلى أن إحدى الحجج التي تم طرحها في القدس وواشنطن للمضي قدماً في هذا الادعاء هي أن الاتفاق يضمن المصالح المتبادلة بين" إسرائيل" ولبنان. وينص الاتفاق على أنه في مقابل السماح للبنان باستخراج الغاز من حقل "قانا"، الذي يمتد جنوب المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان، فستحصل "إسرائيل" على حصة من أرباح شركة الطاقة الفرنسية المتعددة الجنسيات "توتال" التي تم التعاقد معها لاستغلال الحقل.
وقد قيل إن هذه الترتيبات لا تجعل من لبنان فحسب، بل من حزب الله أيضا، شريكين تجاريين مع "إسرائيل"، ما يعمل على استقرار بيئة الاستثمار والأنشطة الاقتصادية في شرق البحر المتوسط.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر، كرر هوكستين وجهة النظر المتفائلة هذه على "القناة 12" الإسرائيلية، قائلا إن "معرفة أنه لن يكون هناك تهديد بالصواريخ من حقل (غاز) كاريش على طول الطريق إلى الجنوب" توفر لإسرائيل الأمن.
وفي حين أن هذه الحجة مقنعة إلى حد ما، فمن المهم أن نتذكر أنه، كما أشار المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية ألون أوشبيز، فإن "الاتفاق ليس ملزما لحزب الله". وفي أي نزاع مستقبلي، فإنه من غير المرجح أن تكون أصول الطاقة الإسرائيلية في البحر الأبيض المتوسط - سواء في "كاريش" أو "ليفياثان" أو "تامار" - محصنة ضد هجوم حزب الله.
ورأى الخبير أن حزب الله لن يتردد كثيرا في ضرب منصة "إنرجيان" التي تملكها بريطانيا. على أي حال، فإن نموذج التدمير المؤكد المتبادل للردع - أي التهديد بأن إسرائيل سترد باستهداف الأصول في المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان - لا ينطبق هنا. وسترى غضاضة في استهداف المنصات المملوكة لشركة النفط الفرنسية.
وما يزيد الأمور سوءا أن حزب الله قد يستفيد اقتصادياً من الاتفاق. وفي الواقع، في غياب إجراءات محاسبية فعالة وشفافة، فإن أي مكاسب مالية غير متوقعة من الغاز البحري من المرجح أن تتلاشى في هاوية الفساد الهائل في لبنان. وكون الحزب حلقة رئيسية في شبكة الفساد هذه، فمن المؤكد أنه سيستفيد من ذلك.
وفي الواقع، يفوق تهديد مبادرة حزب الله الطويلة الأمد المتعلقة بتحديث عشرات الآلاف من صواريخه وقذائفه، والمعروفة بـ"الذخائر الموجهة بدقة"، التهديدات التي يفرضها على "إسرائيل" في البحر المتوسط.
وقبل خمس سنوات، حدد "الجيش الإسرائيلي" التقدم في هذا المشروع على أنه "خط أحمر" ووصفه بانتظام بأنه "أكبر تهديد لإسرائيل اليوم"، ويأتي في المرتبة الثانية بعد البرنامج النووي الإيراني. ولم تنجح الجهود الإسرائيلية لإحباط البرنامج، ويستمر «حزب الله» في إحراز تقدم مطرد في تحديث ترسانته على الرغم من الاتفاق البحري.
ومن غير الواضح كيف سيؤثر الاتفاق على الجهود الإسرائيلية المستقبلية لتعطيل مشروع "الذخائر الموجهة الدقيقة". ولا شك في أن هذه الجهود ستستمر ولكن يمكن أن يتم تقييدها بسبب المخاوف من التصعيد الذي قد يؤثر على أصول الطاقة الإسرائيلية.
وبغض النظر عن هذه الشكوك حول الفوائد الأمنية المزعومة طويلة الأجل، فإن للاتفاقية بعض الجوانب الإيجابية. حتى وإن لم يتم التوقيع على الاتفاقية من قبل كل من "إسرائيل" ولبنان - بل كل طرف على حدة مع الولايات المتحدة - فإنها تزيل نقطة خلاف واحدة بين الجانبين.
وعلى هذا المنوال، تظهر إمكانية حل القضايا الشائكة بين "إسرائيل" ولبنان دبلوماسيا، على حد زعم الخبير الأمريكي.
وتَذْكر الوثيقة الموقعة كلمة "إسرائيل"، وهو تطور غير عادي إن لم يكن غير مسبوق بالنسبة للبنان. علاوة على ذلك، فإن قبول حزب الله لاتفاق يعترف ضمنيا بإسرائيل يسيء إلى سمعة الحزب. ولعل الأهم من ذلك، أن الاتفاق أيضا، على الأقل مؤقتا، يتجنب مواجهة عسكرية وشيكة بين الجانبين.
وأكد ان الاتفاق سيعود على "إسرائيل" بفوائد حقيقية وهامة. ومع ذلك، فإنه لا يُعد الاتفاق حلا شافياً. فمن غير المرجح أن يحقق لبنان مكاسب اقتصادية كبيرة قبل عقد من الزمان - وبالتالي فإن الاتفاقية لن تفعل شيئاً يذكر لتحقيق الاستقرار في الدولة و"شرق البحر المتوسط" في أي وقت قريب.
وفي غضون ذلك، فقد يخرج حزب الله من المفاوضات البحرية بثقة زائدة، ما قد يزيد من خطر التصعيد، تحت ذرائع أخرى، في المستقبل.
باختصار، كان هناك الكثير من الأسباب الوجيهة لواشنطن للتوسط، ولإسرائيل للموافقة على هذا الاتفاق. ومع ذلك، فإن تحسين أمن إسرائيل على المدى الطويل، ليس بالضرورة أحد هذه الأسباب.