تفتقر النظم الاستبدادية إلى القدرة على الجمع بين
الشرعية والفاعلية،
فبينما مؤسساتها السياسية تفتقر إلى الشرعية والدعم الشعبي، تفتقر المؤسسات
التنفيذية البيروقراطية للفاعلية، في تيسير حياة المواطنين.
ليس فقط الافتقار إلى الشعبية أو الفاعلية أو كليهما هو مكمن الخطر، ولكن
تدمير قنوات الربط بين
المجتمع والمؤسسات السياسية في الدولة، سواء كان ذلك عمداً
أو غير ذلك. بل وتعمل على تعطيل كل ما من شأنه بناء قاعدة شرعية للمؤسسات
السياسية، أو تحقيق فاعلية واقعية للمؤسسات التنفيذية، بما يحقق الحد المطلوب من المتطلبات
الشعبية.
إن الإجراءات التي تدمر قوى المجتمع، وتعطل قدرتها على المطالبة بالإصلاح
السياسي ومن ثمّ المشاركة السياسية، يمكن إجمالها في التالي:
1- تفتيت الأحزاب السياسية ذات القاعدة الشعبية العريضة.
2- إضعاف منظمات المجتمع المدني.
3- الانتهاك العشوائي المتعسف لحقوق المواطنين وحرياتهم.
4- كبح تطور التعليم، وتضييق مجال القراءة والكتابة.
5- إغلاق المجال العام، والسيطرة على وسائل الإعلام.
وبينما تواصل الأنظمة المستبدة الضغط لتدمير قوى المجتمع، تعمل بلا كلل على
تكريس
السلطة والقوة في أيدي التنفيذيين البيروقراطيين. وهو ما يخلق فجوة بين
القوى المجتمعية وقوى المؤسسات السياسية، تتسع وتتعمق أيضاً يوماً بعد يوم. وعلى
قدر ما تتسع هذه الفجوة وتتعمق، تتعذر محاولات الإصلاح السياسي.
يمكن أن نضيف هنا عاملين ثالثا ورابعا، وهما: الوضع الاقتصادي، والهوية
الوطنية. ولكن كما يقول "هانتغنتون" في كتابه "النظام السياسي
لمجتمعات متغيرة"، إن أهداف مثل التطور الاقتصادي والاستقرار السياسي والإصلاح
الاجتماعي أهداف مستقلة، والتقدم في أحدها لا يعني بالضرورة التقدم نحو الآخر.
يمكن اعتبار وحدة الهوية الوطنية عاملاً فاعلاً، في تحقيق وتوحيد مستهدف
المجتمع السياسي، في وجود مؤسسات سياسية ممثلة للشعب، وقادرة على تحقيق النمو
الاقتصادي والإصلاح المجتمعي بين أفراده، كما يقول رئيس أفغانستان السابق "أشرف
غنّي" والسيدة "كلير لوكهارت"، في كتابهما "إصلاح
الدول الفاشلة". فعوامل الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي والإصلاح
الاجتماعي والهوية الوطنية، تعتبر وسائط الربط بين المؤسسات السياسية "النظام
السياسي"، وبين قوى المجتمع، وتدمير هذه الوسائط يعني بالضرورة صعوبة التوافق
على مستهدف المجتمع السياسي في أي دولة.
المساواة كمبدأ محرم
"ليس هناك علاقة تكافؤ، أو حوار، بين السلطة والجماهير في المجتمع
المتخلف. ليس هناك اعتراف متبادل، وسير متبادل للالتقاء عند نقطة
تحفظ توازن العلاقة بينهما في مناخ مرن ومتكيف. السلطة لا تريد مواطنين، بل أتباعاً، إنها تخشى المُوَاطنة
التي تعبر عن ذاتها، تخشى المواطنة التي تنزلها من مكانتها الجبروتية إلى مستوى
اللقاء الإنساني" (التخلف الاجتماعي، د. مصطفي حجازي، 2005).
إن أخشى ما يخشاه المستبد، هو أن يرى نفسه في موضع المساواة الإنسانية مع
أحد من شعبه، أو حتى مع من يشاركه السيطرة على ذلك الشعب، ممن هم أدنى منه مرتبة
في السلطة والنفوذ.
ووفقاً لذلك، ينقسم الشعب لشريحتين عريضتين: شريحة أصحاب السلطة والنفوذ،
وشريحة مجتمع العامة، وبغض النظر عن التقسيمات الكثيرة والدقيقة لطبقات المجتمع في
كلتا الشريحتين، فإن الأزمة لا تكمن في هذه التقسيمات الطبقية.
تاريخياً، كان من المتوقع أن تخلق هذه الطبقية صراعاً سياسياً، تنصهر فيه
النظريات والمتغيرات، حتى يتشكل المستهدف السياسي لمجتمع الدولة، وتحدد من خلاله
آليات اكتساب الشرعية السياسية، والحد الأدنى من مخرجات النظام للشعب.
يقول فريدريك أنجلس، في مقدمته للطبعة الألمانية الثالثة لكتاب الثامن عشر
من برومير، لـ"كارل ماركس": "إن فرنسا هي البلد الذي كان
الصراع الطبقي التاريخي يصل فيه كل مرة، وأكثر مما في أي بلد آخر، إلى نهاية
فاصلة، وهي بالتالي البلد الذي كانت فيه الأشكال السياسية المتغيرة التي يتحرك
ضمنها هذا النضال الطبقي، والتي تتلخص فيها نتائجه، تنطبع في خطوط جلية إلى أقصى
حد".
ولكن في بلد كمصر، على سبيل المثال، يتعدى الأمر كونه مجرد تكريس السلطة في
أيدي النظام، وتجريف قوى المجتمع وتعطيل قدرتها على المطالبة والمشاركة السياسية.
ولا تكمن الأزمة في تعميق الطبقية بين أفراد المجتمع، ولكن تكمن في غرس الوعي
الزائف بأحقية طبقة ما في الحكم والسلطة والنفوذ (جيش- شرطة- قضاء)، وعدم أهلية
طبقات أخرى من المجتمع سوى في التبعية والانصياع والطاعة العمياء.
لقد لخّص المفكر الفرنسي، السويسري الأصل، "جان جاك روسو"، قدرة
المستبدين في تغيير قناعات الشعوب بما يحفظ حكمهم وسلطتهم حين قال: "لن يكون
الأقوى بالقوة الكافية لكي يكون السيد دائماً؛ إلّا إذا حوّل القوة إلى حق،
والطاعة إلى واجب". فالقوة كل القوة هي حق أصيل لشريحة أهل السلطة والنفوذ،
والطاعة كل الطاعة هي الواجب على شريحة العامة من المجتمع.
بالنظر إلى واقع المجتمع المصري الآن، يمكننا القول إن النظام المستبد،
الممتد من 1956 وحتى اليوم، استطاع بنسبة كبيرة غرس هذه القناعات الزائفة لدى
قطاعات عريضة من المجتمع، من خلال الوسائل التي أشرنا إليها سابقاً لتدمير قوى
المجتمع.
يمكننا الآن، محاولة ترتيب هذه المشكلات:
- فقدان الشرعية.
- تدني الفاعلية.
- تدمير قوى المجتمع.
- تمييع المستهدف السياسي للمجتمع.
- تحريم المساواة وتكريس الطبقية.
- تزييف الوعي.
وبغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا في ترتيب هذه العوامل، إلا أن أكثر
الأدلة وضوحاً على تماهي المجتمع مع المستبد، هي سعيه الحثيث للانتقال بين
الطبقات، وليس الصراع بينها، من أجل الحرية والعدالة والمساواة.
بكل أسف، يمكنني القول إن قيمة
المساواة الإنسانية هي قيمة غائبة بشكل واسع عن الوعي الجمعي، في غالب المجتمعات
الواقعة تحت حكم مستبد. وهذه الحقيقة هي ما تجعل الثلة المطالبة بالمساواة منبوذة من الشريحتين
العريضتين في المجتمع، فالأولى تخشى ضياع السلطة من بين أيديها، والثانية تحلُم
بالتماهي مع السلطة والعيش في كنفها.