حظيت الذكرى العشرون للاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق بنصيب وافر من الاهتمام في الإعلام الغربي ودوائر الاستشارة والتفكير في الغرب، لكن ليس في مراكز الحكم وصناعة القرار.
بعد عقدين من الزمن يتكرس الإجماع على أن ذلك الاحتلال المشؤوم فتح أبواب جهنّم على المنطقة العربية بل وعلى العالم كله. وهناك إجماع أيضا على أن الاحتلال بُني على كذب وتدليس ورغبة مبيتة أمريكية بريطانية في تدمير
العراق وزرع الفوضى في المنطقة بلا أدنى مراعاة للقوانين الدولية وللأمم المتحدة ودورها. أسلحة الدمار الشامل وشبهات الإرهاب كانت مجرد شماعات سرعان ما فقدت جدواها حتى لدى الذين لوّحوا بها في التمهيد لاحتلال العراق.
لكن الأمر يتوقف هنا. بعد السرديات، لا أحد يغامر بالخوض في مسائل المحاسبة والمساءلة رغم أن تحديد المسؤوليات ومحاسبة أصحابها في كل الأزمنة والأمكنة هو الأساس في التعلم من المآسي وتفادي تكرارها لاحقا. ربما لأن المساءلة تمنع الحروب في المستقبل، وهو أمر لا يلائم أمريكا خصوصا والغرب عموما، إذ لا بد لهم من حرب كل فترة زمنية وأخرى.
من المصادفة أن الذكرى العشرين لاحتلال العراق تزامنت مع صدور مذكرة المحكمة الجنائية الدولية لاعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتهمة تهريب أطفال أوكرانيين إلى روسيا. فبينما أقام العالم الغربي الاحتفالات لقرار الجنائية الدولية بحق بوتين، لم يرد من لدنه أي تلميح لضرورة إصدار قرارات مماثلة بحق مَن خططوا لاحتلال العراق وأمروا والذين نفذوا، على الرغم من أن احتلال العراق لا يختلف عن احتلال أوكرانيا إلا من حيث الجغرافيا ولون الضحايا ودياناتهم. هذا إن لم يكن أسوأ.
ما حدث ليلة 19 آذار (مارس) 2003 كان بداية لمأساة تدفع منطقة بكاملها ثمنها إلى اليوم. تلك الليلة الملعونة كانت بداية تاريخ جديد خطير على العالم. انهيار النظام الدولي وتضعضع الأمن العالمي والإقليمي بدأ في تلك الليلة وليس مع احتلال أوكرانيا بعد 19 سنة كما يزعم الغرب كذبا. الغزو الأمريكي البريطاني للعراق قاد إلى حروب محلية وبؤر توتر إقليمية بدأت تبرز وتختفي إلى أن حل الحريق الكبير. وليس مبالغة القول إن الحرب في أوكرانيا هي واحدة من التبعات البعيدة وغير المباشرة لاحتلال العراق.
خطورة ذلك الحريق أنه طال حتى الذين حرّضوا عليه من دول المنطقة. وطال
الولايات المتحدة وبريطانيا بأكثر من طريقة.
تآكلُ الدور الأمريكي والغربي ومعه النفوذ الأخلاقي للقوى الكبرى بدأ مع احتلال العراق واستمر مع الحرب الكونية على الإرهاب. المحصلة اليوم أن الثقة في أمريكا تقلصت وقائمة أعدائها في اتساع. ولا أحد يثق في نواياها حيال أوكرانيا.
الولايات المتحدة خسرت العالم العربي لسببين: احتلال العراق وإسرائيل. قبل الانقضاض على العراق بعقود كانت للولايات المتحدة مقاربة للشرق الأوسط أقرب إلى الاتزان على الرغم من أن ركنها الأساسي كان دائما أمن إسرائيل وتفوقها. لكن الانحياز الفجّ لإسرائيل حافظ على حد أدنى من المراعاة للدول الأخرى. اليوم لا ترى أمريكا في الشرق الأوسط غير إسرائيل، وسياستها الخارجية ترى المنطقة إما أبيض أو أسود، وتقوم فقط على التصنيفات والتهديد من منطلقات أخلاقية أمريكا أول مَن ينتهكها.
يكذب مَن يدّعي أن العرب يكرهون الولايات المتحدة بسبب قيَمها المزعومة أو بسبب تفوقها العلمي وحضارتها.
لولا إسرائيل والعراق لاحقا، ثم الحروب الفرعية هنا وهناك، من النادر أن يوجد في المنطقة العربية مَن يذكر أمريكا بسوء. العكس صحيح، والحرب العالمية الثانية خير شاهد على السمعة الجيدة التي تركها الأمريكيون في مناطق مثل الجزائر وتونس، على عكس الفرنسيين والبريطانيين.
بريطانيا بدورها تدفع اليوم ثمن احتلال العراق. توني بلير، رئيس حكومتها آنذاك، الذي شارك في الغزو بداعي الإطاحة بنظام ديكتاتوري يخزّن أسلحة الدمار الشامل، يقدّم اليوم الاستشارات لأنظمة حكم أكثر ديكتاتورية وأسوأ في طموحاتها العسكرية من نظام صدام حسين تمتد جغرافيًا من القوقاز إلى شمال إفريقيا. كانت بريطانيا في أفضل أحوالها خلال نهاية التسعينيات وبداية الألفية يقودها حزب العمال بعقيدة وسطية اجتماعية إنسانية، لكن ذلك لم يدم طويلا ومراجعة سريعة لواقع المملكة خلال العقدين الماضيين تكفي لاستنتاج أن أزماتها بدأت مع احتلال العراق واستمرت عبر تراجع الثقة في مؤسسة الحكم وفي السياسيين ثم الأزمة المالية وصولا إلى البريكسيت الذي لاحت إرهاصاته في الأفق مع بداية العقد الماضي.
هذا على صعيد القراءة السياسية والاستراتيجية. هناك جانب لا يقل أهمية يتمثل في أهمية تحديد المسؤوليات الفردية والشخصية. فلكي لا تبقى ذكرى احتلال العراق مجرد حدث يُذكر مرة في السنة، وحتى لا تتكرر هذه المأساة مرة أخرى في بلد آخر وبحق شعب آخر، يجب على العالم الانتقال من مرحلة الأدبيات والبكائيات إلى مرحلة الردع. والردع يتحقق بجلب مجرمَي الحرب جورج بوش الابن وتوني بلير وعصابتيهما إلى المحكمة الجنائية الدولية. يجب محاكمتهم والقصاص منهم ولو بأثر رجعي.
جريمتهم مستمرة وتداعياتها الصحية والسياسية والبيئية والاستراتيجية أسوأ اليوم من الغزو في حد ذاته. تبعات جريمة هاتين العصابتين تتراكم وتزداد تعقيدا وهذا يكفي للمطالبة بمحاكمة كل من له يد في ما حدث. مَن لا يزالون على قيد الحياة يجب محاكمتهم في لاهاي مثلما حوكم قادة يوغسلافيا السابقة بتهم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. ومَن فارقوا الحياة يمكن محاكمتهم بأثر رجعي حتى وهم في قبورهم، مثل وزير الدفاع الأمريكي آنذاك دونالد رمسفيلد ووزير الخارجية كولن باول.
صحيح أن المحاكمة بأثر رجعي لن تؤذيهم في شيء وهم في العالم الآخر، لكن يكفي أنها ستكون عارا ولعنة من التاريخ، وتلك في بعض الأحيان أسوأ من المحاكمات الحضورية في صيغها التقليدية.
كيف ذلك؟ عندما تتوفر الإرادة ويحضر الصدق والحرص على العدالة وإنصاف الضحايا يصبح الباقي سهلا. الأمر في يد الحكومات ومكونات المجتمع المدني ودعاة السلام وأنصار العدالة في الضفتين. إذا التقى هؤلاء واتفقوا لن يكون هناك مستحيل.
(
القدس العربي)