عشرون عاما هي عمر محنة
العراق الحديثة التي لم تنته فصولها بعد. فمنذ الاحتلال الأمريكي الذي بدأ عمليا في مثل هذه الأيام من العام 2003، لم يستطع هذا البلد العربي الكبير استعادة عافيته، وما زال يدفع فاتورة الحرب التي اعتقد الأمريكيون، كعادتهم، أنها ستكون «قصيرة وحاسمة».
كان الرئيس جورج بوش الابن يتباهى بقوة أمريكا العسكرية، بعد اثني عشر عاما من الحرب الأولى التي خاضها والده ضد القوات العراقية التي كانت قد اجتاحت الكويت في الثاني من آب/ أغسطس 1990.
وفي غضون سبعة أشهر من ذلك الاجتياح كان العالم بانتظار أول حرب ذات طابع تكنولوجي غير معهود. وعندما نشبت كانت وقائعها تنقل مباشرة عبر قناة «سي إن إن». يومها اعتقد قادة أمريكا أنهم استطاعوا التغلب على مشاعر الخوف والحذر التي سيطرت على الإدارات المتعاقبة منذ انتهاء الحرب الفيتنامية في العام 1975. تلك الحرب التي كلفت أمريكا أكثر من 58 ألف قتيل من قواتها وأدت لفقد حوالي مليون من الفيتناميين حياتهم كانت رادعا للولايات المتحدة عن التورط في حرب أخرى مكلفة. ولكن أزمة الكويت وفرت لها فرصة الخروج من نفق الحذر والخوف.
كانت عودتها آنذاك متزامنة مع تفكك الاتحاد السوفياتي، فأصبحت القطب الأوحد على مسرح الجغرافيا السياسية في عالم مكشوف للمغامرات والتحديات الكبيرة. وكانت قوى الاحتلال الإسرائيلية أكبر الرابحين من العودة الأمريكية للمنطقة.
اليوم بعد مرور عقدين على تلك الحرب التي أسقطت نظام حزب البعث برئاسة صدام حسين، استبدلت مشاعر الفرح والأمل التي غمرت الكثير من العراقيين بقرب نهاية ذلك النظام، بمشاعر مختلفة يهيمن عليها الإحباط وشيء من الغضب. لقد نشأ جيل عراقي لم يعش أيام نظام البعث، ولكنه يعيش أوضاعا جديدة في ظل حكومات لم تستطع توفير قيادة سياسية بحجم العراق، حتى أصبحت وكأنها حكومات «تصريف أعمال» بدون خطط بعيدة المدى أو طموحات لأدوار إقليمية ودولية تليق بهذا البلد العربي الكبير. ومن مصاديق هذا التداعي استسلام حكومة بغداد الأسبوع الماضي لطلب من حكومة البحرين سحب القائم بالأعمال العراقي، مؤيد عمر عبد الرحمن.
جاء الطلب بعد لقائه ولي عهد ذلك البلد لمناقشة تسيير رحلات طيران بين البلدين، وهو أمر معتاد لا يمثل خروجا على الدبلوماسية. بدا العراق صغيرا وهو يذعن لذلك الطلب الغريب من بلد صغير تعيش حكومته أزمة مع شعبها، وتشهد تظاهرات يومية لم تنقطع يوما منذ اثني عشر عاما.
من يضاهي العراق في إمكاناته البشرية والمادية؟ من لديه مياه أوفر مما يوفره دجلة والفرات (برغم تضاؤل منسوب مياههما في الحقبة الأخيرة بسبب حالة الجفاف التي تعم المنطقة). وهل هناك أرض أكثر خصوبة من «أرض السواد»؟ أية دولة عربية تمتلك هذا التعدد الديمغرافي والديني والمذهبي الذي بإمكانه أن يكون عامل قوة للبلاد؟ من لديه من المرجعيات والمزارات الدينية كما لدى العراق؟ ومن يملك عقولا بشرية ضالعة في شتى العلوم كهذا البلد الذي لا يخلو مستشفى بريطاني من أطبائه أو جامعة دولية من محاضريه وأخصائييه؟ من هم المدرسون الذين ساهموا بتخريج أجيال من المتعلمين الجزائريين والليبيين واليمنيين؟ أي بلد عربي يستطيع أن يدّعي القدرة على إنتاج النفط بمعدل يضاهي الإنتاج السعودي ويتفوق عليه؟
يشعر شعب العراق اليوم أن حياته وظروفه وتطلعاته ليست بمستوى بلاده. فكان من نتائج ذلك أن تكتظ قيعان البحار بجثث أبنائه الذين دفعتهم حالة اليأس للهرب طلبا للجوء، فغرقت القوارب التي توهمّوا أنها ستنقلهم إلى شواطئ الأمان في أوروبا.
لكل ذلك يشعر شعب العراق اليوم أن حياته وظروفه وتطلعاته ليست بمستوى بلاده. فكان من نتائج ذلك (وما أكثرها) أن تكتظ قيعان البحار بجثث أبنائه الذين دفعتهم حالة اليأس للهرب طلبا للجوء، فغرقت القوارب التي توهمّوا أنها ستنقلهم إلى شواطئ الأمان في أوروبا، وابتلعت أجسادهم الحيتان.
ما الذي حدث؟ اين وقع الخطأ؟ بمناسبة مرور عشرين عاما على الحرب كُتبت المقالات وأقيمت الندوات وعقدت المؤتمرات في عواصم غربية عديدة، وكان هناك ما يشبه الإجماع على تحميل أمريكا مسؤولية ما حدث، وأن جورج بوش الابن هرع لاستخدام القوة قبل أن يعطي العقل دوره لوضع خطط للتعاطي مع ما بعد الحرب. كان مدفوعا بالرغبة في إثبات عظمة وهمية لبلد يعاني داخليا من تصدعات وفق خطوط التمايز العرقي وأزمات مجتمعية حادة تعكسها حوادث القتل العبثي من قبل العنصريين والمعتوهين وذوي العاهات النفسية. وقد قتل في الشهور الثلاثة الأولى من هذا العام أكثر من 60 شخصا في حوادث إطلاق نار بلغ عددها 130 حادثة. وشهد العام الماضي 647 حادثة إطلاق نار من بينها 21 حالة قتل في كل منها أكثر من خمسة أشخاص. ويعدّ القتل بالأسلحة النارية أول سبب لموت الأطفال فيه.
هذا البلد الذي ينصّب نفسه شرطيا في العالم، لا يستطيع ضمان أمن مواطنيه لأسباب من بينها القوانين الغريبة التي تعتبر السلاح مشاعاً بين الناس وتسمح قوانينه لكل مواطن بامتلاكه. واشتركت في إضعاف العراق أطراف إقليمية عديدة لم ترغب في عراق قوي ينافسها على النفوذ الإقليمي. لقد كان خطأ كارثيا حل الجيش العراقي والمؤسسات العملاقة التي اعتمد عليها صدام حسين لتنمية العراق، كهيئة التصنيع العسكري. فبعد إسقاط صدام حسين ألم يكن ممكنا الحفاظ على الدولة التي ارتكز عليها عقودا، وإعادة توجيهها لخدمة العراق الجديد؟
بعد عقدين من
التغيير أصبح العراقيون بشكل عام يئنون تحت وطأة الاحتلال. فحتى الذين تحمسوا للحرب معتقدين أنها ستخلصهم من حكم صدام حسين، بدا عليهم الإنهاك والإحباط بعد عشرين عاما من المعاناة الإنسانية والسياسية. وهناك ما يشبه التوافق على بضع نتائج كارثية نجمت عن الحرب التي شنها الأمريكيون في بلاد الرافدين. أولها تدمير العراق كقوة سياسية واقتصادية وثقافية. ثانيها: إبعاده عن لعب دور إقليمي بحجمه وتحويله إلى بلد يعيش على هامش العمل العربي المشترك.
ثالثها: تعريضه لظاهرة الإرهاب التي لم تكن منتشرة قبل الحرب، وهي التي أتت على الأخضر واليابس وأدخلت المنطقة في نفق مظلم لم ينته بعد. رابعها: انتشار
الفساد كظاهرة غير محدودة، أصبحت طابعا لهذا البلد القادر على أن يكون مثالا للآخرين في مجالات التنمية والنهضة والعلم والاستقامة. ويكرر العراقيون أن الفساد انتشر منذ أن عُيّن بول بريمر من قبل الرئيس بوش رئيسا للإدارة المدنية للإشراف على إعادة إعمار العراق في 6 مايو 2003 بدلا من جي جارنر.
وتُعزى ظاهرة الفساد إلى عهد بريمر خصوصا في منح العقود للشركات الأمريكية وتعيين المسؤولين غير المؤهلين برواتب خيالية. خامسها: تحول العراق إلى بلد مكون من كانتونات شبه مستقلة، ولا تزال حكومته المركزية تسعى لإخضاع الأطراف لقرارات المركز، وما استمرار المكوّن الكردي في التمرد على المركز وعقد اتفاقات مع الشركات الأجنبية لضخ النفط بشكل منفصل عن المركز إلا أحد تجليات تراجع سلطة المركز نتيجة الاحتلال الأمريكي.
سادسها: ارتهان العراق عسكريا واقتصاديا بشكل متواصل. فالسفارة الأمريكية في بغداد تضم أكثر من 3000 موظف، بالاضافة للقواعد الأمريكية في مناطق عديدة خصوصا في غرب العراق. وحتى الآن لم يرفع هذا البلد من البند السابع الذي يجعل عائداته خاضعة للبنك الفيدرالي الأمريكي الذي تذهب له عائدات النفط ثم يحوّل جزءا منها إلى الميزانية العراقية ويدفع الباقي ضمن الغرامات التي فرضت على العراق بسبب الحرب وما سبقها.
الأمر المؤكد أن العراق قادر على النهوض بنفسه، بشرط أن تكون لدى قادته السياسيين إرادة الاستقلال الحقيقي. برغم ذلك يسجل للعراق أمور عديدة: أولها إصراره على انتمائه العربي والإسلامي ومقاومته الانجرار إلى مخطط التطبيع الأمريكي مع الكيان الإسرائيلي. ثانيها: ممارسته قدر من الديمقراطية المشوبة بالاعتبارات العرقية والمذهبية والمحاصصة. ثالثها: تصديه للإرهاب ورفض الانصياع لأجندته التي كانت ستؤدي إلى تقسيمه. رابعها: رفضه المشروع الطائفي الذي كاد يمزق المنطقة بلهيبه الذي اخترق الحدود، وقدرته على التعايش ضمن مكوّناته، ويسجّل لمرجعياته الدينية هذا الدور التاريخي الرافض للتمزيق والتصدع.
خامسها: سعيه برغم جراحه للقيام بدور إقليمي كان أبرز إنجازاته جمع إيران والسعودية على طاولة مفاوضات استمرت عامين تقريبا وتوّجت بعودة العلاقات بينهما تحت رعاية صينية. سادسها: رفضه الدستور الذي وضعه الأمريكيون وإصرار مرجعيته الدينية على أن يكون الدستور مكتوبا بأيد عراقية، وهذا ما حدث.