إذا كانت هجرة المثقَّف
قد تُحوِّله في أكثر الأحوال إلى مُنْبَتّ، إذ يعجز عن إعادة استنبات قيمه ورسالته
في البيئة الجديدة؛ فإن
المثقف المُنْبَتّ قد ينجح أحياناً في استنبات نفسه وتأصيل
وجودها في التُربة الجديدة، إذ يتماهى معها كُليّاً؛ مستوعباً احتياجاتها،
ومُستخرجاً أفضل إمكاناته وملكاته لخدمتها. وهذا لأنه لم تكن له نفس يخسرها قبل أن
يظفر بالنفس الجديدة، كما لم تكن له بيئة يرتبط بها قبل ارتباطه ببيئته الجديدة. بيد
أن نجاح المثقَّف الأممي الأصيل في المهجر، يظلُّ استثناءً محدوداً لا يُعوَّل
عليه في ظلِّ الدولة القوميَّة وقيودها النفسيَّة والثقافيَّة واللغوية، خصوصاً
لمثقَّف ناضج قد بلغ أشُدَّه.
ذلك أن المثقف "الناضج"
الذي بلغ أشُدَّه، قد أنفق الشطر الأكبر من حياته يبني ذاته في علاقتها ببيئتها،
ويُطوِّر أبعاد هذه العلاقة ويُرسخ أسس البناء. لقد بلغ أشُدَّهُ ببنائه دعوته في
نفسه بنفسه، داخل سياق مُتعيِّن. ومن ثم، صارت التضحية بهذا كله مُرادفاً للتضحية
بحياته نفسها؛ لا يلجأ إليه إلا مُضطراً أسوة بحضرة الأسوة الحسنة صلى الله عليه
وآله وسلم؛ القائل: "لولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت". فإن أصحاب الدعوة إلى الله -من الذين يتحرون الصدق-
يُنفقون حيواتهم لا في هذه الدعوة فحسب، وإنما في برمجة حيواتهم على هذه الغاية
الكُبرى والهدف الأعظم. إنهم لا يُكرسون كل جهودهم ويُجنِّدون كل مواردهم في سبيل
هذه الغاية فحسب، وإنما يُنفقون مقادير عظيمة من الوقت والموارِد -النفسيَّة
والروحية والاجتماعيَّة قبل الماديَّة- كذلك في ضبط استقامة حيواتهم على ذلك، لئلا
تنحرف منهم تحت وطأة الضعف الإنساني المفطور؛ فتجنح إلى شيءٍ من متاع الدنيا الذي
يشغل القلب.
هذا الداعية الصادق/ المثقَّف المسؤول، الذي لا يتردد لحظة في التضحية الآنيَّة بحياته في سبيل رسالته، إذا ما استشعر أن هذه الحياة لا يُمكنها الاستقامة على ما راضها عليه مرضاة لله؛ لا يُمكنه التضحية بهذه الحياة- الدعوة في غير هذا السبيل أبداً، إلا أن يشاء الله شيئاً، خصوصاً سبيل الراحة والدعة
لهذا، فإن هذا الداعية الصادق/ المثقَّف المسؤول،
الذي لا يتردد لحظة في التضحية الآنيَّة بحياته في سبيل رسالته، إذا ما استشعر أن
هذه الحياة لا يُمكنها الاستقامة على ما راضها عليه مرضاة لله؛ لا يُمكنه التضحية
بهذه الحياة- الدعوة في غير هذا السبيل أبداً، إلا أن يشاء الله شيئاً، خصوصاً
سبيل الراحة والدعة. فإن من أعظم المشقات استشعار أن ما عشت تبنيه في أمور الدنيا
قد يُهدَم، فما بالك بأمر الآخرة الذي عاش صاحبه يحمل نفسه عليه حملاً في الدنيا،
ويسوقها عبر المشقَّات لتستقيم عليه. وكما يحذر هذا الإنسان المجاهد معوَل ضعفه
وشهواته الجواني، فإنه يحذر كذلك معول الجور والكفر البراني. وعليه؛ فقد يجنح في
لحظة الاختيار إلى لقاء الله موفَّقاً إلى حُسن الخاتمة، ويختار تجنُّب الفتنة؛
فيُضحي بحياته بلا تردد.
وقد
كان سيد قطب مثالاً باهراً للمحدَثين في ذلك، إذ قال لأخته -من بين ما قال- إنه
عَمِلَ لهذه اللحظة طويلاً (أي الشهادة)، ولن يرتضي عنها بديلاً. فقد أحرق حياته
كلها وصولاً إلى هذه النقطة؛ فأقبل على الشهادة كأنها عُرسه، واختار العروج على
الفتنة، والخلود على الهدم.
وقد
كان لعلي عزت بيغوڤيتش رأي حسن في هذا، إذ يرى أنَّ
ما نُسمِّيه حُسنَ طالعٍ، لا يعدو أحياناً كونه توافُقاً بين تكليفنا الفردي
وواجبنا التاريخيِّ، واجتماع سيرتنا وتاريخنا، وانسجام تطلّعاتنا الشخصيَّة مع
مسارات التاريخ. وإن كان بعضهم قد يلتَمِسُ "حُسن الطالع" هذا في
التخلِّي عن الفردي، والرضا بالواجب التاريخي؛ تطويعاً للنفس لترضى به بوصفه قد
صار "حاجة شخصيَّة" فعلاً، تتماهى بها مع مصيرها. وقد كان رحمه الله يرى
أن مُعظَم حياته الفرديَّة قد انقَضَت في صدامٍ مع التاريخي، ولم يشرع الانسجام -أو
الطالع الحسن- بالظهور فيها إلا في مرحلة متأخرة من حياته، تلك المرحلة التي
أنفقها وراء جُدران سجنه!
كان سيد قطب مثالاً باهراً للمحدَثين في ذلك، إذ قال لأخته -من بين ما قال- إنه عَمِلَ لهذه اللحظة طويلاً (أي الشهادة)، ولن يرتضي عنها بديلاً. فقد أحرق حياته كلها وصولاً إلى هذه النقطة؛ فأقبل على الشهادة كأنها عُرسه، واختار العروج على الفتنة، والخلود على الهدم
هذا
الثبات الذي يرجوه المثقف من ربه، ويسأله أن يُعينه عليه سبحانه؛ ليثبُت على موقفه
وقيمه، مُستمسكاً بما هجره غيره خوفاً وطمعاً؛ فيتحمَّل مشاق بيئته وعواقب التزامه
داخلها، مُصطدماً فيها بسياقه التاريخي إن لم يكتب له انسجام بين الفردي
والتاريخي، حتى يبلُغ به الأمر تفضيل لقاء الله تعالى والعروج إليه على التخلي عن
رسالته، والنكوص على عقبيه؛ يفتح بسلوكه النفسي والاجتماعي معاني الرِباط في سبيل
الله، ليُكتب بحوله تعالى مع المرابطين.
وإذا
كان المرابط التقليدي يلزم ثغور دار الإسلام، ليمنع تعدي سائر الأمم عليها، وهو في
ذلك عابد زاهد قد صغُرت الدنيا في عينه؛ فإن المثقف الملتزم يتخلَّق بأخلاق
المرابط ويسلك سبيله، بيد أن الثغر الذي يُرابط عليه ثغر معنوي في المقام الأول؛
إذ تصير مهمته الأولى هي منع انكفاء القُطر الذي يسكُنه على نفسه، والحيلولة دون
انقطاع صلات هذا القُطر بأمَّة الإسلام. إنه مُتعبَّد برباط شاقٍّ يُجاهد فيه لحفظ
نفسه ورسالته، ثم لحفظ الصلة الأممية لمسقط رأسه ومجتمعه. وسنتوسَّع في طبيعة هذا
الرباط ومآلاته في مقالنا التالي والأخير في هذه السلسلة؛ إن شاء الله تعالى.
لكنَّ
ما يعنينا هاهُنا هو التأكيد على أن
الهجرة إلى الراحة والدعة والرزق المادي
الأوسع هي للمثقَّف نكول وتول وتفريط في الثغر الذي يُرابط عليه؛ لأنه سيُنتج في
عُسر ثغره أفضل مما سيُنتجه في يُسر مهجره آلاف المرات، وهذا ما يَغيب عنه كُليّاً؛
إذ أن الإنتاج على الثغر وفي غمار مكابداته، قد اصطبغ بحرارة الحاجة الحركية، أما
إنتاج المهجر فهو عبثٌ بارد خارج السياق، إلا إن تماهى به مع المهجر وبيئته، وصار
نتاجاً يصب في حركته المتعينة.
إن كل
انقلاب عظيم في أحوال الكون البرَّاني قد اعتملَت به نفس إنسان واحد أول الأمر،
ابتداء بدعوات الأنبياء، الذين حملت نفوسهم الوحي المنزَّل من السماء على قلب رجل
واحد، وانتهاءً بفتوح القلوب والعلوم والبُلدان التي يُيسرها الله لبعض خلقه؛
فهكذا قضى الله تعالى أن ينفذ أمره وتسري مشيئته: من خلال نفس خليفته المكلَّف. وإنَّ
صدراً آمن ثم تفجَّر بما آمن به؛ كفيلٌ بأن يتنزَّل به وعليه رحمة تتجاوز كل خيال،
وتفوق كل رجاء... فقط إن آمن!
twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry