ظل الوضع في
السودان بين تأرجحات خارجية وغموض في المواقف في انتظار إعلان الطرف المنتصر، وما بين تشويش وتضليل إعلامي متعمد لحقيقة ما يجري في الداخل المثخن بجراح المدافع. ففي الخارج تنتظر كثير من الدول وضوح الموقف الأمريكي لاتباعه وتنظيم خطواتها على وقعه؛ وموقف واشنطن مضطرب ومتأرجح فيما بين مصادر اتخاذ القرار وجماعات الضغط، غير أنه في غالبه أقرب لإدانة مليشيا الدعم السريع لأسباب لا تتسق مع المواقف الأخلاقية المعلنة التي ترفع رايتها على الدوام.
في عصر ما بعد الحقيقة، يبرز الإعلام باعتباره أهم أدوات الصراعات الدولية الماثلة؛ ففي هذا العصر المأزوم بالنفاق السياسي، تبدو الحقائق الموضوعية أقل تأثيرا في تشكيل الرأي العام مقارنة بالشحن العاطفي والمعتقدات الشخصية. إن عصر ما بعد الحقيقة، هو عصر يحل فيه الكذب محل الصدق، والعاطفة محل الحقيقة، والتحليل الشخصي محل المعلومة، والرأي الواحد محل الآراء المتعددة. ففي خضم التطورات التكنولوجية برزت ظاهرة صحافة المواطن، وهو ما قد ينطبق على منصات التواصل الاجتماعي ومنها تطبيقات مثل «تيك توك» و«فيسبوك»، باعتبارها شكلا جديدا من أشكال الممارسات الصحفية غير المهنية. وفي فضاء علم وتخصص الإعلام، يشار إلى هذه الظاهرة باستعمال مصطلحات متنوعة، من قبيل الصحافة التشاركية والإعلام مفتوح المصادر وصحافة الشارع أو الصحافة الشعبية، وكلها مصطلحات وتسميات تشير إلى ذيوع دخول مهنة الصحافة في عصر مرحلة جديدة لا تخلو من خطورة بالغة. لقد تميز هذا العصر بالتحولات التقنية السريعة التي غيرت طرق تفاعل الناس وتواصلهم وسبل حصولهم على المعلومات في كل أرجاء العالم. وغدا الناس الآن يمتلكون معلومات ضخمة فيها الغث والسمين في أجهزة يحملونها في كفوفهم، مما يعني سرعة تردد الأخبار والمعلومات في كل بقاع العالم في ثوان قليلة معدودة.
ولا يعني منتوج هذا النوع من الإعلام أن الشخص العادي وحده الذي قد يقع في تصدير الخطر إلى المجتمعات بشكل غير مقصود، تدفعه بساطته وجهله وربما حسن نيته، وإنما هذا النوع من الإعلام أصبحت تقف من خلفه الدول والحكومات والجماعات السياسية متخفية قاصدة التضليل الإعلامي؛ باعتبار ذلك وسيلة دعائية وأداة حرب ضد الخصوم. فالقنوات الفضائية الكبرى ذات المصداقية النسبية، تتخذ من صدقيتها المكتسبة قاعدة انطلاق للغوص في التضليل والغرف من مياه وسائل التواصل الاجتماعي الآسنة، إما بغرض الكسب الرخيص أو أنها تعمل على تنفيذ أجندات سياسية. وساد التضليل الإعلامي وانتشر حتى إن منظمة الأمم المتحدة اضطرت لوضع تعرفيات لهذه الظاهرة؛ وترى المنظمة الأممية إن كان نشر المعلومات المغلوطة هو الانتشار العرضي للمعلومات المغلوطة أو المعلومات غير الدقيقة، فإن التضليل الإعلامي هو السعي إلى نشر معلومات مغلوطة قصدا إلى الخديعة وإلحاق ضرر وخيم. وتضيف بأن التضليل الإعلامي يمكن أن يضخم التوترات في حالات الطوارئ أو حالات الصراع المسلح.
يقول الباحثون الإعلاميون؛ إن التضليل الإعلامي يتمثل في أن القائمين عليه يدركون أهمية الصدقية الإعلامية في كسب عقول الناس وقلوبهم، ليس حبّا في الصدق؛ بل لمعرفتهم بالمستوى المطلوب لتمرير الكذب عند الضرورة، من خلال الرسائل والمضامين الدعائية التي تقدم للجمهور على أنها خطاب إعلامي صادق. من هنا ظهرت نظرية ما يعرف بـ«كيمياء الكذب» التي تشترط تمرير 95 % من الرسائل والأخبار الصادقة أولا بهدف كسب ثقة النَّاس، ثم بعد ذلك يمكن بث مضامين ورسائل مضللة وكاذبة عند الحاجة، دون اكتشاف ذلك من الجمهور الذي تعود على المصداقية من تلك الوسائل. ومما يؤسف له، أن كثيرا من القنوات تبني قصصها الخبرية في معالجتها للأوضاع في السودان على مقاطع وسائل التواصل الاجتماعي، فغدا الواقع هناك مرهونا بما تنقله وتتداوله وتؤثر به وسائل التواصل الحالية، ولدرجة تصل إلى حالة البلبلة أو التشوش أو الاضطراب الفكري والسلوكي في بعض الأحوال.
إن الإعلام وبصورة أشمل الاتصال، هو نقل المفاهيم بقصد الإقناع، وهي عملية أساسها خلق الترابط في الحركة. كما هي مشاركة في الأفكار والمعلومات عن طريق إرسال وتوجيه وتسيير، ثم استقبال بكفاءة معينة وخلق استجابة معينة في وسط اجتماعي معين. ولذلك يفترض أن الإقناع هو الأثر القائم على الحقيقة وهو الهدف السامي للاتصال، ويذهب الكثير من الدارسين والباحثين إلى أن الرسالة المقنعة والفعّالة، هي تلك التي تتميز بخصائص جديرة بتحويل الوظيفة السيكولوجية للفرد، على نحو يجعله يستجيب علناً تجاه موضوع الإقناع ومفرداته، وبالأساليب التي يريدها القائم بالاتصال أو التي يوحي بها. أما إذا ساءت النوايا وساد التلبيس والتدليس، فإن الهدف السامي ينقلب إلى شر مستطير.
ولعل الخطورة الكبيرة في أن الإعلام الاجتماعي قد أتاح للصورة الحية المنقولة مجالا واسعا، فمن الثابت أن العين ترى وتدرك أكثر من 75 % من جملة الإدراك الذي تقوم به حواس الإنسان في اليوم. وللصّورة قدرة على تأسيس دلالات مزدوجة وصناعة تورية ثقافية جديدة وحادة، فالصّورة الحديثة التي تنقلها كاميرا الهاتف الذكي ومن ثمّ القنوات التلفزيوني،ة أطلقت الظّل وحررته من سلطة الجسد عليه، فهي بهذه الكيفية أصبحت تملك قابلية على خلق دلالات خاصة بها لا تتطابق مع دلالات الأصل. إن كثيرا مما تنقله الصّورة الحية من أحداث من شأنه تحريك مراكز الإحساس والشعور لدى المرء، وصولا إلى التأثير في لا شعوره. فحتى بعد انتهاء المشاهدة، تبقى صورة الحدث عالقة في الذهن، تعيد إنتاج الحدث ذهنيّا؛ إذ إن فعل الكاميرا يُساهم في خلق صورة ذهنيّة أو افتراضية مأخوذة من الصّور الفعلية للحدث لدى المشاهد. فالكاميرا هي الفاعل المجهول - المعلوم، الموجود في لحظة التماس الأولى مع الحدث.
(
الشرق القطرية)