لم يكن العالم ليكذّب الصور التلفزيونية
الحية القادمة من
غزة الصمود والمقاومة، صور جرحت كبرياء الغطرسة الإسرائيلية
وعرّت الشعارات الإنسانية المدعاة. لم تنقل تلك الصور الحية بشاعة قتل الآلة
الحربية الإسرائيلية الممنهج الذي شمل الأطفال والنساء قبل الرجال فحسب، وإنما
نقلت كذلك ذعر قادة
الاحتلال في لقاءاتهم وإطلالاتهم الإعلامية وبدا وزير الدفاع
مرتجف الفرائص زائغ العينين لا يستقر لها حال، فعلم الناس أن فيهم ضعفا وخوارا
يحاولون تغطيته بعمليات عسكرية حمقاء، ليسجل التاريخ أسوأ ما عرفته البشرية من
إرهاب وتعطش للدماء.
لقد تزامنت الحرب الإعلامية على ادعاءات الاحتلال
الإسرائيلي، مع حربه العسكرية الميدانية ضد غزة، ورغم الدمار والقتل إلا أن الأولى
كانت بارعة في نقل الحقيقة المجردة ودحض الرواية الإسرائيلية. واتسمت التغطية
الإعلامية عبرها بكثافة غير معتادة وتدفق غير مسبوق للأخبار والتقارير والصور. ولم
تنجح مزاعم رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بإقناع أحد بأن حربهم
على غزة هي حرب بين الحضارة والبربرية بل أثبتت
الصورة التلفزيونية المباشرة العكس
تماما.
ولهذا اعتبرت الصورة التلفزيونية لغة معبرة وأداة لمخاطبة
إنسانية المشاهد، كما أنها تعتبر إحدى الوسائل البصرية لاسيما وقد تطورت بتطور
التكنولوجيا وتعتبر من الوسائل التركيبية التي تمزج بين العناصر الصوتية والحركية
والبصرية في إرسالية واحدة عن طريق الأقمار الصناعية، فهي أكثر تأثيراً وإقناعاً،
مع الأخذ في الاعتبار توافر الظروف المواتية للتأثير والإقناع وتمثل ذلك في وجود
قضية فلسطينية عادلة في مواجهة محتل غاصب. لقد تغيرت المعادلة السائدة باعتبار أن
إثارة الغرائز هي الأخطر ومن ثمّ جعل «لعبة الغرائز الحسية» أهم وسائل جذب
للمشاهدين. فقد حلت صدقية النقل عبر الصورة التلفزيونية المباشرة محل تلك المعادلة
(الهوليودية) حيث مصانع السينما الأمريكية الأكثر تأثيرا في هذا المجال.
إن الصورة الحية تستطيع التغلب على إشكالية الأمية وكذلك
الكسل فهي تطارد المشاهد وتعتقله اعتقالا، بينما في حالة الكلمة المكتوبة فإن
القارئ يطارد الكلمات مع إمعان جهد التخيل وتحويل الكلمات المكتوبة إلى صورة حيّة
في عقله. ولهذا يُعدّ التلفزيون الآن من أهم وسائل الاتصال الجماهيرية ولعل أبلغ
وصف يوضح مدى التأثير الذي يتركه، التلفزيون بأنه أصبح عين الإنسان وأُذنيه.
وينسجم ذلك مع الحقيقة العلمية بأن العين ترى وتدرك أكثر من 75% من جملة الإدراك
الذي تقوم بها حواس الإنسان في اليوم وتليها مباشرة الأذن التي تسمع أصواتا تحمل
معلومات تعادل 8% من جملة إدراك الإنسان اليومي، إذ ينقل التلفزيون إلى المشاهدين
الأحداث الجارية بكل ما فيها من معانٍ وانفعالات فهو يربط بينهم وبين الصورة. وفي
هذه الحالة يكون المتلقي أقرب إلى الاتصال المواجهي المباشر، أو الاتصال وجها لوجه
مثلما هو الحال مع الاتصال الشخصي والاتصال الجمعي. وفي هذا النوع من الاتصال تكون
أذهان المشاهدين دائما ملتصقة بالواقع ومرتبطة بحيز الحياة الواقعية، كما أن
المسافة بين المشاهد والعرض تعتبر طبيعية ومباشرة في نفس الوقت الذي تُعبر فيه عن
علاقة بين شخص وشخص. وعليه فإن المؤثرات تقاس دائما على الواقع الفعلي وفي ظل هذا
المناخ يحس الجمهور – جمهور المشاهدين – بواقعية ما هو واقعي وبعدم واقعية غير
الواقعي.
إن كثيراً مما تنقله الصّورة التلفزيونية من أحداث من شأنه
تحريك مراكز الإحساس والشعور لدى المرء، وصولا إلى التأثير في لا شعوره. فحتى بعد
إطفاء الشاشة، تبقى صّورة الحدث عالقة في الذهن، تعيد إنتاج الحدث ذهنيّاً، إذ أن
فعل الكاميرا يُساهم في خلق صّورة ذهنيّة أو افتراضية مأخوذة من الصّور الفعلية
للحدث لدى المشاهد. فالكاميرا التلفزيونية هي الفاعل المجهول - المعلوم، الموجود
في لحظة التماس الأولى مع الحدث. وبالتالي تتحول الكاميرا - عبر شاشة التلفزيون -
من راصدة للحدث إلى فاعلة ومشاركة فيه، ولو في شكلٍ غير مباشرٍ، عبر ما تقدمه من
نتاج مرئي حقيقي، له دوره في تنشيط الذّهن، وصناعة الوعي.
تشكّل الصّورة المنقولة من دمار ومعاناة غزة بُعداً نفسياً
كامناً في لاشعور المُتلقي، باعتبارها تفصيلاً حياتياً يومياً، وتتجه ببصره وحسه
نحو معايشة حقيقية وكأنه جزء من ذلك الواقع الأليم، وهذا الاندماج الذي تحققه الصورة
يفرض التعاطي الإيجابي ورفض الظلم والمطالبة بمحاسبة الجاني فضلا عن أن ذلك يخلق
تحصينا ضد الدعاية السوداء التي يتعمد إعلام الاحتلال الإسرائيلي وداعموه بثها
وفرضها على كونها بديلا لحقائق الواقع.
في حالة ما يجري في غزة تتوارى الجوانب السلبية لفعل
الكاميرا؛ فالإنسان بطبعه يتعمّد إبداء أفضل ما لديه من وجه حسن تعلوه ربما
الابتسامة عندما توجّه الكاميرا إليه وتكمن السلبية هنا أنه من الصعب عليه أن يتم
اقتناص الواقع أو الحقيقة، حيث تنطوي الصّورة التي يتعمدها المراسل أو مصدره أو
محدثه، على احتيال وثناء ذاتي. بيد أنه في حالة غزة اليوم وفي كل حالات الكروب لا
تجد الكاميرا عناءً في نقل الواقع المجرّد بكل آلامه وجروحه وتمظهراته الإنسانية
عميقة التأثير. وبحسب المفكر الفرنسي جان بوديّار فإن التلفزيون ينقل لنا «عالم
الواقع المفرط»، فالواقع الحقيقي لم يعد موجوداً، بل استعيض عنه بما نشاهده على
شاشته من مشاهد وصور وأحاديث وتعليقات. فلولا نقل هذا الواقع المفرط لما تمكن
خيالنا من تصور ما يحدث في غزة الجريحة، ولصدقنا السياسيين والموظفين الأممين
وخدرنا تعبيرهم عن «القلق» وسعيهم (الحثيث) لإنقاذ الأطفال والنساء. ومن حسن الحظ
أن الصورة التلفزيونية غدت سلطة نافذة تفوق سلطة أولئك ولذا نتفق تماما مع يقول
الدكتور دومينيك فولتون مدير أبحاث في المركز الفرنسي للدراسات، في كتاب التلفزيون
على سدة السُلطة «إن التلفزيون وجد طريقه لتبوؤ سدة السلطة تأثيراً ونفوذاً، كما
أنه أصبح موضوع نجاحات استثنائية منذ أكثر من نصف قرن تقريباً، دون أن تكتسب
الشرعية الفكرية والاجتماعية التي تستحقها».
(الشرق القطرية)