أُعلن في 26 نيسان/ أبريل الماضي عن وصول الجنرال "مايكل كوريلا"
إلى
إسرائيل، في زيارة هي الخامسة من نوعها منذ توليه منصبه؛ وهو قائد القيادة
المركزية الأمريكية (سنتكوم).
وهي زيارة بدعوة من رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي الجديد "هرتسي
هليفي"، حيث سيجتمع بقيادات الجيش الإسرائيلي، إضافة إلى جولات سيقوم بها
تشمل قواعد عسكرية إسرائيلية.
وسائل الإعلام والأوساط المتابعة تعاملت مع الخبر كشيء روتيني طبيعي؛
من دافع التعوّد، ولأنه لا
يكاد يمر يوم دون أن تذكرنا الأقوال والأفعال بحقيقة: إسرائيل تحت الرعاية والحماية وضمان التفوق، بغض النظر عن الحكومة
التي تدير شأنها.
رعاية ودعم لا مثيل لهما من الولايات المتحدة الأمريكية، وعموم
الغرب، ووصل الحال برئيسة المفوضية الأوروبية "أورسولا فون ديرلان" إلى
أن تبث كلمة بالصوت والصورة بمناسبة الذكرى الـ75 لإنشاء الكيان، تبنت فيها سردية
الحركة الصهيونية.
ليست مبالغة ولا عدم واقعية أن نقول بأن إسرائيل هي المَعلم والتمظهر الأوضح للحضارة الغربية في بلاد العرب، حتى ولو كان شعور الأفراد والجماعات غير ذلك
هذه هي إسرائيل؛ تأسست فكرتها ونمت وكبرت في أوروبا، وقامت بدعم
بريطاني وفرنسي وسوفييتي ثم أمريكي يحتضنها ويقوّي شوكتها.
أبرز الآثار والتأثير هنا
ليست مبالغة ولا عدم واقعية أن نقول بأن إسرائيل هي المَعلم والتمظهر
الأوضح للحضارة الغربية في بلاد العرب، حتى ولو كان شعور الأفراد والجماعات غير
ذلك.
قد يبدو أن هذا التشخيص نابع من كوني فلسطينيا؛ ولا يجوز سحبه
وتعميمه على بقية العرب، بل حتى الفلسطيني، قد يحس ويشعر بأثر
الحضارة الغربية
أكثر من شعوره وإحساسه بإسرائيل.
المخترعات ووسائل الحياة
فهذه الوسيلة (الإنترنت) التي أوصل بها رأيي، والتيار الكهربائي الذي هو عصب خدمات ووسائل الحياة المختلفة،
والمركبة التي أستقلها في ذهابي وإيابي، والهاتف الذي أتكلم فيه مع القريب
والبعيد، وأدوات طهي الطعام الذي آكله، ووسائل التدفئة شتاء أو طرق التبريد صيفا،
والمحروقات وكل مشتقات النفط التي هي كالدم للجسد في حياتنا اليومية أفرادا
وجماعات، وحتى المسجد الذي نصلي فيه، يمتلئ بمخترعات ومنجزات الحضارة الغربية.
الخلاصة أنك أينما ولّيت وجهك ستجد نفسك محاطا بمخترعات ووسائل حياة
ابتكرتها الحضارة الغربية الأوروبية أو الأمريكية، في قيامك ونومك وصحتك وسقمك،
وفي علمك وعملك، وإقامتك وسفرك، بل حتى عندما تموت ستكفن بكفن حيكت خيوط قماشته
بآلة غربية ويُحفر قبرك بحفّار صُنع أو اختُرع في دولة غربية.
فبعد كل هذا ومزيد منه، كيف تقول: إسرائيل هي أوضح وأبرز مظهر لحضارة
الغرب عندنا؟
إسرائيل فوق ذلك كله
لقد أنشأ الغرب
الحركة الصهيونية؛ وحوّلتها أوروبا إلى دولة في بلادنا، واحتضنت أمريكا هذه الدولة
وتدعمها بدعم لا تناله أية ولاية من ولاياتها الخمسين، وحددت -وهذا هو المهم- مدى
استفادتنا من المخترعات والعلوم الغربية بناء على فكرة تضمن تفوقا إسرائيليا مطلقا
علينا.
وبنت الولايات
المتحدة وأوروبا تصورها للوضع السياسي والاجتماعي في بلادنا على فكرة بقاء
واستمرارية إسرائيل والحفاظ على تفوق نوعي لها على محيطها، وأقامت بنية جيوسياسية
جوهرها ملخصه كلمة "إسرائيل".
شطط عند بعضنا
ومنا أناس حازوا منابر للتنظير وتمكنوا من فضاء الثقافة والإعلام،
إما يتجاهلون، وهذه جريمة، أو يتغافلون، وهذا غباء أو ضلال، أو لا يعلمون، وتلك
مصيبة، حقيقة كون إسرائيل هي (هدية) الغرب الكبرى والأهم لنا، وليس شيئا آخر؛ سواء
أكان سيارات أو طائرات أو كهرباء وإنترنت أو أي ضرب من ضروب العلوم التطبيقية
والتجريبية، التي أصرّوا -غالبا للحفاظ على أمن إسرائيل وتفوقها- أن نظل في مربع
الاستهلاك لها.
وصاروا بيدقا متقدما للغرب ينظّر لأفكار ودعوات تقول بأن علينا نبذ
تراثنا والتخلي عنه، فأول خطوة -حسبما ينظّرون- لكي نلحق بركب الحضارة الغربية هي
أن ننبذ تراثنا، وأن نعيد قراءته بعيون عصرية، تقوم على التشكيك والاستعلاء. ويصبّون
جام غضبهم على صحيح البخاري مثلا، ويحمّلونه مسؤولية ما نحن فيه من مشكلات وأزمات
سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، مع أن غالبيتهم لم يقرؤوا من البخاري صفحات
قليلة، وبانتقائية اتهامية تشكيكية، ودون وعي أو فهم ما الذي يُعمل به من الأحاديث
في البخاري أو غيره من كتب الحديث، وكيف تُفهم الأحاديث وفي أية سياقات.
وعموما، يرون ويقولون تصريحا وتلميحا: علينا أن ننسلخ تماما من تراث
ومدونات عمرها 1400 عام، كي نواكب العصر، وللتحايل على رأيهم في النص المقدّس (القرآن
الكريم) يقولون بأننا يجب أن نفسره تفسيرا حداثويا، مع أن غالبيتهم يعانون من ضعف
شديد في فقه اللغة العربية، والقرآن نزل بلسان عربي مبين.
العلاقة واضحة وعضوية أيضا؛ فالغرب أقام إسرائيل، وهو اسم له دلالة دينية من زمن بعيد جدا عن زمن النهضة الأوروبية، ودعمَها -وما زال- وهي تستند على ادعاءات تقوم على ذلك الموروث المزعوم، وهو موروث له في حياة المجتمع الإسرائيلي السياسية والاجتماعية حضور كبير يزداد بوضوح كما نعلم.. أليس هذا تناقضا فاضحا، وليس هذا فقط؟ فالغرب سمح لإسرائيل استنادا لحق ديني مزعوم ووعد تاريخي يقوم على التدليس والتزوير؛ بأن تقتل عددا كبيرا من شعب آخر وأن تهجّر أغلبه وتستولي على أرضه
4000 سنة أم 1400 سنة؟
وإذا كان هجومهم على موروث الأمة عنوانه أو حجته الظاهرة تقادم
الزمن، فإن المنطق يقول إن التخلي عن موروث عمره 4000 سنة أو 1300 سنة وهي تواريخ
حياة وموت إبراهيم وموسى -عليهما السلام- أولى وأوجب، خاصة إذا أخضعنا النصوص -لا
سيما التلمود المكتوب حوالي 400 م- إلى البحث العلمي والمنطق الرصين.
فالبخاري مثلا مات قبل حوالي 1200 سنة، فلماذا تصرّون على محاربة
كتابه وتغضّون الطرف عن كتب سبقته بحوالي 700 عام أو 3000 عام فأكثر؟
ما علاقة هذا بالحضارة الغربية وإسرائيل؟ العلاقة واضحة وعضوية أيضا؛
فالغرب أقام إسرائيل، وهو اسم له دلالة دينية من زمن بعيد جدا عن زمن النهضة
الأوروبية، ودعمَها -وما زال- وهي تستند على ادعاءات تقوم على ذلك الموروث
المزعوم، وهو موروث له في حياة المجتمع الإسرائيلي السياسية والاجتماعية حضور كبير
يزداد بوضوح كما نعلم.. أليس هذا تناقضا فاضحا، وليس هذا فقط؟ فالغرب سمح لإسرائيل
استنادا لحق ديني مزعوم ووعد تاريخي يقوم على التدليس والتزوير؛ بأن تقتل عددا
كبيرا من شعب آخر وأن تهجّر أغلبه وتستولي على أرضه.
فأين العدالة الغربية المزعومة هنا؟ ولماذا تطلبون مني السعي للحاق
بركب حضارة قامت على روايات مشكوك بصحتها، وفق منهج البحث العلمي الغربي ذاته؟ والأهم تعيّروننا بـ1400 عام وتغضّون الطرف عمن استند إلى ما عمره
4000 عام!
كرمال عين إسرائيل
وكي يضمن بقاءها وتفوقها، تخلّى الغرب عن الديمقراطية التي يتغنى
بها، ودعم الاستبداد في المنطقة؛ ذلك لأنه يدرك أن الشعوب إذا سمح لها باختيار
حكامها، فلن تختار من سيظل مستكينا لتفوّق إسرائيل، ويرضى بالهوان في تعاطيه معها.
والاستبداد المرتبط بمصلحة غربية كهذه، بالتأكيد سيجلب كل الكوارث التي نعيشها في كل مجال.
وبالطبع مزّق الغرب المنطقة إلى دول يدعم تقسيمها مجددا، أيضا كي
يضمن سلامة إسرائيل، وفي صلب استراتيجيته منع أي نوع من أنواع الوحدة، حتى لو كانت
الوحدة قائمة على أسس مستوردة من الغرب نفسه.
عذر أقبح من ذنب
سيقولون لك بأن الغرب يعلم يقينا زيف
ادعاءات الحركة الصهيونية، ولكنه في سبيل الحصول على إمدادات الطاقة والسيطرة على
طرق التجارة العالمية، ومنافسته مع أمم أخرى، دعَمَها.
وهذا لعمري عذر أقبح من ذنب؛ فالغرب الذي
يزعم الاحتكام إلى العلم والمنطق وحقوق الإنسان أيا كان عرقه ودينه ولسانه.. إلخ، يلجأ
إلى أساطير (سأستعير تعبير روجيه غارودي) يؤسس بناء عليها دولة قامت على حقوق
ودماء شعب آخر، وإفقار وحكم استبدادي لشعوب أخرى.
فبأي حق تريدون منا أن ننظر إلى الغرب نظرة وردية، وأن
نجعل حضارته مقياسا معياريا نحتكم إليه في ظل تبنيه المطلق لإسرائيل العنصرية
العدوانية، وما افتتحتُ به حديثي غيض من فيض؟
إسرائيل سُبّة في حاضر وماضي الحضارة الغربية الحديثة،
وبعد زوالها ستظل وصمة عار تطاردها، ما لم تصحح خطأها.
ولطالما إسرائيل موجودة وتمارس بدعم غربي ما تمارسه فهي
وجه الحضارة الغربية البارز عندنا، مهما حاول بعض أبناء جلدتنا إقناعنا بالنظر إلى
مظاهر أخرى.