تفجرت ظاهرة هدم مدافن
المصريين بمنطقة السيدة نفيسة في حي الخليفة
بالقاهرة لبناء محور مروري جديد بجسوره؛ منذ أكثر من عام، وشهدت تصريحاً لأحد
أحفاد الأديب الراحل طه حسين بأن السلطات تنوي هدم مدفن جده، وكان أن ثار تلاميذ
الراحل خاصة في كبريات الصحف فأمعنوا في النشر عن ضرورة الحفاظ على رفاته في
مكانها وعدم نقلها، وأعلنت باريس وقتها استعدادها لاستقبال رفات طه حسين لدفنها في
مقبرة تليق به. وكان أن تدخل بعد نحو 4 أشهر الجنرال الحاكم بنفسه معلناً في أيلول/
سبتمبر الماضي أنه "لا يمكن أبدا المساس بأي مناطق فيها
مقابر لشخصيات نقدرها
ونحترمها أو مناطق أثرية". وبالفعل تم ترك المدفن لكن على بعد 4 أمتار من
الجسر الجديد، كأحد أعاجيب مصر المعاصرة، فصار الوصول إليه شاقاً وبقي كدليل على
أن السلطات ومهندسيها وموظفيها.. أو النظام بعامة لا يشق له غبار ولا يغلب على
أمره في شيء ولو كان تخريب وجود ما تبقى من الأموات بعد إفساد حياة الأحياء.
أحرج النظام وقتها استعداد فرنسا لاستقبال رفات طه حسين، راعت باريس كونه -رحمه
الله- كان متزوجاً من مواطنتها السيدة الراحلة سوزان بريسو، لكن الإحراج نفسه لم
يتكرر مع رفات الراحل الأديب يحيي حقي، إذ استبقت السلطات نفسها الذكرى الثلاثين
لرحيله في 9 من كانون الأول/ ديسمبر الماضي؛ بإعلام ابنته الإعلامية نهى بضرورة
نقل رفاته مع جدها وأعمامها لمحافظة الشرقية، وبعد أن ضجت الابنة بالشكوى استسلمت
أخيراً للقرار على مضض، ويبدو أنها تلقت تهديداً ألزمها الصمت. وفي حالة حقي -رحمه
الله- لم تراعِ السلطات هذه المرة كونه تزوج بعد وفاة زوجته الأولى من امرأة
فرنسية أو إمكانية نقل رفاته لفرنسا، فضلاً عن كون الراحل من رموز مصر الثقافية
والدبلوماسية التي يشملها تصريح الجنرال السابق بعدم نقل رفاتها.
ويبدو أن النظام كان تحصن ضد المخاوف بنقل رفات أحد المصريين للخارج، بل لم
يعد يرى في الأمر عاراً أو عيباً، بل رآه علاجاً له يريحه ولا يضطره لتصريح جديد،
أو تفسير، أو حتى توضيح لسبب "هجر" تصريحه السابق في عدم نقل
تراث
الرموز، باختصار يُغْني التهديد عن التفسير والتصريح وتعب الكلام والمراجعة!
وعلى الطريق ظهرت مقابر لرموز أخرى أثرت الحياة المصرية وما تزال، من مثل
الشاعر حافظ إبراهيم، والسياسي الشاعر "رب السيف والقلم" محمود سامي
البارودي، أيضاً أشهر قارئ للقرآن الكريم في تاريخ مصر الحديث، أو منذ اشتهر أمر
التسجيلات الصوتية، الشيخ محمد رفعت -رحم الله الجميع- وانتقلنا لمرحلة جديدة من
مناشدات الجنرال لترك الرفات ترقد في رحمة الله. ولم يعد هناك من مجيب كما يُتوقع،
فيقبع المهندسون الذين يخططون لإزالة مئات المقابر الباقية منذ مئات السنوات في
غرف مكيفة، ولا تأبه الدولة أو النظام بالأحياء من الأساس كي تهتم بالأموات، بل
لعله من المفيد أن يرى الأحياء ما تفعله الدولة برفات آبائهم وأجدادهم كي يجدّوا
في طلب دولة أخرى أو وطن بديل يريحهم من عناء ارتفاع تكاليف المعيشة، فضلاً عن ضيق
البلاد بهم وعدم اتساع الحريات لاستيعاب مجرد وجودهم فيها.
وعلى ذكر فرنسا، فإنه من المعروف أنها عمدت لجمع رفات عدد كبير من رموزها في
مقبرة العظماء بباريس، ومنهم فولتير وجون جاك روسو والعشرات غيرهما، وقد تم هذا
منذ القرن الثامن عشر.
وبدلاً من الحلم بمقبرة على غرارها راح أهالي بعض الأموات يستجيرون، بل
يقولون: لماذا تم استثناء مدفن طه حسين؟ ومع عذرنا لهم ولموقفهم الشديد المرارة،
كنا نتمنى أن يكون النظام أكثر إيماناً بقضيتهم وإنسانية مع أهلهم الذين سبقوهم
لله، وهو المصير الذي لن يتأخر عنه إنسان بمن فيهم رموز النظام الحالي نفسه.
إن التطوير المدّعَى بإضافة مئات المدافن والمقابر والرموز على مر العصور
لعلماء من مختلف فروع العلم، سواء أكانوا مصريين أم قضوا آخر أيامهم في دفء ورحب
الحياة المصرية.. إن كل هذا يثير أسئلة لا نهاية لها لأن النظام نفسه يهتم بمقابر
اليهود بل يطورها، فضلاً عن أنه لا يستطيع هدم ضريح لشيخ حقيقي أو مدعى بأطراف
القرى والنجوع أو بعواصم الأقاليم، فلماذا يتعمد هذا الفعل الذي ينفي التحضر عنه؟
وصلت مسيرة الهدم لقبر الإمام ورش أحد أشهر أصحاب قراءات القرآن الكريم
بعد حفص -رضي الله عنهما- والإمام ورش متوفى قبيل نهاية العام الهجري الثاني،
وقراءته مشهورة في المغرب العربي وهم على استعداد لنقل رفاته وتكريم صاحبها.. فهل
صارت مصر طاردة لما تبقى من الأموات بعد الأحياء؟ فإذا كانت الأنظمة المصرية
المستقرة المتتالية تتعمد هذا الفعل القبيح منذ عهد محمد علي باشا في القرن التاسع
عشر؛ فقد زاد الجنرال الحاكم اليوم فيه وتمادى حتى صرنا نأمل في غد يلقى فيه
المصريون رحمة من ربهم تريحهم من هذا النظام المستبد وأذنابه من الطغاة!