إن العملية العسكرية التي وقعت، في الثالث من حزيران/ يونيو 2023 على
الحدود المصرية-
الفلسطينية، التي يسيطر عليها جيش الكيان الصهيوني، جاءت مفاجأة، وأحدثت هزة شديدة
على المستويات العسكرية والسياسية والإعلامية، كما على الرأي العام المصري،
والفلسطيني، والعربي، والإسلامي، وأحرار العالم. هذا وستكون لها أبعاد كثيرة شديدة
الأهمية، وذلك من حيث مكانها وهوية منفذها، وعلاقتها بالصراع الفلسطيني- العربي-
الإسلامي والعالمي، ضد الكيان الصهيوني.
فمن ناحية المكان والتوقيت والأسلوب، فقد وقعت على
الحدود المصرية مع الكيان الصهيوني التي أريد لها أن تبقى هادئة، تظللها المعاهدة
المصرية-
الإسرائيلية منذ العام 1979، مما يعني أنها أحدثت اختراقاً لتلك المعاهدة
التي أريد لها أن تُخرجَ مصر من الصراع.
وقعت على الحدود المصرية مع الكيان الصهيوني التي أريد لها أن تبقى هادئة، تظللها المعاهدة المصرية- الإسرائيلية منذ العام 1979، مما يعني أنها أحدثت اختراقاً لتلك المعاهدة التي أريد لها أن تُخرجَ مصر من الصراع
ولكن قبل ذلك، لنتوقف على بعض تفاصيل العملية التي تدل
على أن منفذها محمد صلاح، كان درَسها جيداً قبل أن يقدم عليها، فقد سار على قدميه
مسافة خمسة كيلومترات على أرض وعرة لا تبقي أثر المشي. واختار نقطة لتجاوز الحاجز
الحدودي من دون أن ينكشف، بالرغم من كاميرات التصوير وأجهزة المراقبة ومجسّات
الإنذار. وقد حمل القرآن برفقة سلاح الكلاشنكوف، وست جعب ذخيرة وسكاكين الكشافة.
وقد وصل إلى هدفه فجأة، فأردى جندياً وجندية كُلفا
بالحراسة وقام بإخفائهما، وذلك بانتظار الدورية التي ستأتي حتماً للإبدال، أو بسبب
انقطاع الاتصال بعد قتلهما. وطال الانتظار حوالي ست ساعات، وفاجأ الدورية أيضاً
التي جاءت تبحث عن الجندي والجندية، وكانت مدعومة بطوافة عسكرية ودرون. ويقال إنه
كُشِف من الخلف، ولكن بعد أن أردى من الدورية جندياً، وجرح آخر (ربما أحدهما ضابط)،
الأمر الذي يشهد للمجند محمد صلاح بالحرفية والذكاء والدهاء، وقوة الإرادة والصبر،
إلى جانب الشجاعة والإقدام ونيل الاستشهاد، بعد أن أوصل الرسالة التي حملت أبعاداً
وأبعاداً.
إن قراءة هذه الأبعاد ابتداءً من توقيت العملية
وأسلوبها وهوية منفذها، فأهمية التوقيت تنبع من كونها جاءت في فترة نسيت فيها
أهمية محاربة الكيان الصهيوني من قبل مصر خصوصاً، والدول العربية عموماً. فقد جاءت
العملية في توقيت أصبحت فيه موازين القوى والمستوى الذي وصلته المقاومة المسلحة
على أرض فلسطين، يتطلبان تغيير ما ساد من معادلة في الصراع منذ المعاهدة المصرية-
الإسرائيلية. وبهذا يتميز توقيت العملية عن توقيت عملية سليمان خاطر 1985، وعملية
أيمن محمد حسني 1990، على أهميتهما في خرق الحدود، وتحدي المعاهدة المشؤومة سيئة
الذكر والأثر. فشتان بين الأمس واليوم في قراءة موازين القوى وواقعها.
إن الأسلوب (نظرية الوصول إلى الهدف والاستراتيجية
والتكتيك) قال إن التنافض مع الكيان لا يحل إلا بالمقاومة المسلحة والقتال، وهو ما
ترمز إليه العملية المسلحة التي قام بها محمد صلاح. وهي تخرق ما عُرف باستراتيجية
التسوية والسلام التي ثبت فشلها، وأدت إلى انهيار عربي اقتصادي وسياسي وعسكري
واستراتيجي، وذلك على عكس ما ظُن كل الظن أنها "طريق الازدهار والتطور والنمو
والسلام".
هي تخرق ما عُرف باستراتيجية التسوية والسلام التي ثبت فشلها، وأدت إلى انهيار عربي اقتصادي وسياسي وعسكري واستراتيجي، وذلك على عكس ما ظُن كل الظن أنها "طريق الازدهار والتطور والنمو والسلام"
أما البعد الرابع الذي يمثل، بدوره، أهمية لا تقل عن
الأبعاد الثلاثة السابقة، فكون هوية منفذها تحمل سمة شاب جندي مصري، معبرة عن روح
الشعب المصري والفلاح المصري، بل عن روح مصر الشعبية الشابة، من خلال عفويته
وبساطته، مما شكل اختراقاً ضد الحرب النفسية التي شُنت ضد مصر والشعب المصري
والشعوب العربية، والتي قالت إن الشعار الذي يسود الآن في أوساطها هو:
"فلسطين ليست قضيتي"، فكيف يمكن لهذا الشعار الوهمي والمضلل أن يتطابق
مع ما تمثله هذه العملية، وما يمثله استشهاد منفذها محمد صلاح؟
هذا وثمة أربعة أبعاد أخرى يجب التوقف عندها في قراءة
أهمية هذه العملية:
أولاً: بالنسبة إلى المقاومة الفلسطينية فإن أول ما
فعلته العملية كان وضع الحَبِّ في طاحونة المقاومة المسلحة المتصاعدة في الضفة
الغربية والقدس، كما في المقاومة في قطاع غزة، كما في وعي الشعب الفلسطيني، فهي ضد
العدو نفسه، ومن قبل شاب من شعب شقيق. وهي شبيهة من حيث فردية المنفذ والتنفيذ
بالعمليات التي شهدتها الضفة الغربية: في بئر السبع (غالب أبو القيعان)، وفي بني
براك (ضياء حمارشة) ودوزنكوف (رعد الخازم). الأمر الذي يكرس هذا النمط من العمل
"الفردي"، ويشدد على أهميته، طبعاً ضمن أشكال المقاومة الجماعية، من
المواقع وعلى مستوى المواقع. ومن ثم يجب اعتبارها أثمن هدية تقدم، خصوصاً للمقاومة
في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ثانياً: هنالك بُعد شديد الأهمية بدوره، ولا سيما من
الناحية الاستراتيجية بعيدة المدى، وذلك في تأثير العملية في المناخ السياسي
العام، وفي الرأي العام العربي والإسلامي، كما في مخزون الوعي في الشعب والأمة.
فإذا كان الشكل النضالي الاستراتيجي في الصراع مع
الكيان الصهيوني، هو المقاومة المسلحة بسبب طبيعة الكيان الاستعمارية الاستيطانية
الاقتلاعية الإحلالية، فقد انتهت التجربة لتبين أهداف المشروع الصهيوني للقاصي
والداني. وهي اقتلاع ما تبقى من الشعب الفلسطيني من أرض فلسطين، وإعلانها
"أرض إسرائيل"، وتهويدها باعتبارها وطناً قومياً لكل يهود العالم (انظر
قرار الكنيست حول الدولة القومية 2018)، الأمر الذي يجعل الصراع شاملاً للرأي
العام العربي والإسلامي (وإلى حد ما الرأي العام العالمي). وهذا ما يفسر تهالك
حكومتي كل من دونالد ترامب وجو بايدن على التطبيع الذي يشمل كل الدول العربية
والإسلامية مع الكيان الصهيوني، وهدفه تصفية القضية الفلسطينية، وتكريس فلسطين
يهودية بالكامل.
الوعي الجماهيري والموقف الجماهيري يكشف عنهما الرأي العام العربي والإسلامي، من خلال ما تتركه عملية العوجا التي نفذها محمد صلاح، وأشباهها فلسطينياً، من أثر في تشكيل الرأي العام العربي والإسلامي
ومن ثم يفسّر أهمية ما يجري من أشكال مقاومة، وكثرة
استشهاد في الجانب المقابل، من أجل تعميق الوعي ضد المشروع الصهيوني، كما توسيع
الالتفاف حول مقاومته. فالوعي الجماهيري والموقف الجماهيري يكشف عنهما الرأي العام
العربي والإسلامي، من خلال ما تتركه عملية العوجا التي نفذها محمد صلاح، وأشباهها
فلسطينياً، من أثر في تشكيل الرأي العام العربي والإسلامي.
ويمكن مشاهدة هذا التأثير من ردود الفعل الهائلة شبه
الجماعية مصرياً وعربياً وإسلامياً، سواء أكان في الشوارع أم الإعلام الرقمي
ومختلف أشكاله الإعلامية والتحركات الشعبية.
يبقى البُعد الذي لا يقل أهمية، هو ما تتركه هذه
العمليات من آثار سلبية في معنويات جيش الكيان الصهيوني ومستوطنيه. وذلك من خلال
العمليات الفردية التي تواجه الجندي الصهيوني المدجج بالسلاح، وبكل ما أخرجته
التكنولوجيا من وسائل وأجهزة دفاعية أو هجومية أو دفاعية- هجومية في آن.
والأمر هنا لا يتعلق بالخسائر البشرية، على أهميتها،
فحسب، وإنما أيضاً بالمعنويات العامة، وبالوعي الذي سينتهي إلى قناعة تقول:
المشروع الصهيوني يواجه خطر الزوال. وذلك ما دام هذا النمط من الشباب في حالة
تكاثر، لخوض عمليات من مستوى هذه العمليات، المعتمدة على الذكاء والمهارة والشجاعة.
ثم أضف بكل أريحية حروب المواجهة التي تصل صواريخها إلى تل أبيب، وكما تفعل كتائب
تقاتل من نقطة الصفر.
وخلاصة، يُراد للكيان الصهيوني الوصول إلى يأس متزايد،
مع تثبيط للمعنويات متواصل، يتعرض لهما المستوطن الاقتلاعي الإحلالي وكيانه، مما
يقلب المشروع الصهيوني من ترحيل للفلسطينيين إلى رحيل للمستوطنين.