على عكس ما يروج رئيس منظومة الثالث من يوليو بشأن ثورة يناير وأنها
المسؤولة عن الأوضاع
الاقتصادية المتردية التي تعيشها
مصر في الآونة الأخيرة، فاجأ
صندوق النقد الدولي الأوساط الدولية والمحلية في تقرير له
بتفنيد هذه الادعاءات
والمزاعم، إذ أثبت بشكل علمي ومنهجي أن "حجم الخسائر التراكمية التي أصابت
الاقتصاد المصري خلال العقد التالي لثورة 2011 بحوالي 10 في المئة فقط مما كان من
الممكن تحقيقه بشكل واقعي في غياب أحداث سياسية حادة"، مما يوضح حقيقة
المزاعم التي يروجها نظام الثالث من يوليو من هذه الثورة وخصوصا التصريحات الخطيرة
لرئيس هذه المنظومة الذي يردد دوما أن تأثير ثورة 2011 كان كبيراً للغاية، مقدراً
إياه بـ400 مليار دولار.
ومن ثم يكون السؤال: ما الذي تسبب
في هذه الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر في الوقت الراهن؟ ومع التأكيد على أن
هناك العديد من الأسباب المسؤولة عن هذه الأزمة، إلا أن أبرزها وأهمها هو موضوع
القروض بشقيها الداخلية والخارجية. فقد "كشفت أرقام الموازنة العامة المصرية
للعام المالي المقبل (2024-2025) عن زيادة كبيرة في أعباء الدين العام، لتصل
نسبتها إلى 114 في المئة من إجمالي الإيرادات العامة للدولة. وبحسب البيان المالي
للموازنة العامة للدولة للعام المالي (2023-2024)، فقد بلغت قيمة فوائد الدين
العام المحلي والخارجي الواجب سدادها خلال العام القادم 1120 مليار جنيه (36.3
مليار دولار)، مقابل 775.2 مليار جنيه (25.1 مليار دولار) في العام المالي الحالي،
بنسبة زيادة بلغت 44.5 في المئة".
ما الذي تسبب في هذه الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر في الوقت الراهن؟ ومع التأكيد على أن هناك العديد من الأسباب المسؤولة عن هذه الأزمة، إلا أن أبرزها وأهمها هو موضوع القروض بشقيها الداخلية والخارجية
هكذا تساهل نظام الثالث من يوليو في الاعتماد على سياسة القروض وتعامل معها
بجهل منقطع النظير؛ إلى الدرجة التي تفاخر فيها وزير المالية المصري في حوار
تلفزيوني بأنه سيعتمد في تسديد القروض على قروض مستجدة، قائلاً "سأقترض
تاني"؛ هكذا بكل بساطة، الأمر الذي أدى إلى تفاقم هذه المشكلة ووصولها إلى حد
الخطر والخطورة، فالنظام لا ينظر إلى القروض نظرة الخطر أو الشك، ولكنه لا يعنيه
من هذه القروض إلا الإنفاق الفسادي من أجل "السبوبة"، وكأن هناك من
الحكومات التالية أو الأجيال اللاحقة من سيكون معنيا بهذه التركة الثقيلة، أما
الآن فهي لا تخصه في شيء.
وهناك اتفاق بين خبراء الاقتصاد على ارتفاع القيمة المطلقة للدين العام
بصفة عامة والدين المحلي بصفة خاصة؛ حيث كشف البنك المركزي المصري أن حجم القروض
الخارجية بلغ 162.9 مليار دولار في نيسان/ أبريل 2023، وبالمقارنة مع ما كان عليه
الحال قبل وصول هذه المنظومة إلى الحكم يتضح إلى أي مدى لا تهتم هذه المنظومة بوضع
سقف في مسألة الاقتراض، فقد كان الدين الخارجي على مصر في حزيران/ يونيو 2014، نحو
46.06 مليار دولار، أي أن هذه المنظومة اقترضت ما يقرب من 117 مليار دولار في
السنوات التسع الماضية، وجميعها أنفقته في
مشاريع وهمية أو شراء شرعية دون انشغال
بمصلحة المواطن أو الوطن.
تتشابه السياسة الاقتراضية لهذه المنظومة مع ما فعيله "الخديوي
إسماعيل" في مصر منتصف القرن قبل الماضي حينما توسع في الاقتراض إلى الحد
الذي كان الثمن هو ضياع الاستقلال الوطني ووقوع مصر تحت الاحتلال البريطاني، وخضوعها
لصندوق الدين العام الذي اقترحته الدول الدائنة فتحكمت
في مصير العباد ومصائر البلاد، وهو ما أدى في النهاية إلى وقوع مصر رهينة في أيدي
هؤلاء. فالامتيازات الأجنبية لم تكن فقط للأجانب من دول مختلفة، ولكنها أيضا
ترافقت مع جملة من الامتيازات الأجنبية الاقتصادية التي فرضتها حقيقة الديون على
الدولة المصرية آنذاك، وهو أمر يجيده هؤلاء الحكام الذين لا ينشغلون إلا بأنفسهم
ومصالحهم الذاتية الضيقة لهم ولمن يمجدونهم ليل نهار، وهو ما نراه في هذه المنظومة
التي لا تتورع عن حماية وضعها القانوني وشراء شرعيتها بكل ما يمكن أن يباع (مياه، غاز،
جزر).
تتشابه السياسة الاقتراضية لهذه المنظومة مع ما فعيله "الخديوي إسماعيل" في مصر منتصف القرن قبل الماضي حينما توسع في الاقتراض إلى الحد الذي كان الثمن هو ضياع الاستقلال الوطني ووقوع مصر تحت الاحتلال البريطاني
ولعلنا لا ننسى التصريح الشهير "والله العظيم أنا لو ينفع اتباع
لأتباع" هكذا ينظر إلى مصر والمصريين، ومن ثم لا نتوقع منه -مع قوله الدائم
أنه لا يقيم وزناً لدراسات جدوى في أي أمر أو مشروع ضمن سياسته المفعمة بالهوى
والرغبات، فلن تؤدي تلك السياسات- إلا إلى كل شر، وكل سيئ، ولن يعود علينا منه إلا
كل خراب ودمار وتدمير، هذا الرجل كبّل أيدي مصر وشلّ حركتها بالقروض وورّطها في هذه
التركة الثقيلة لسنوات وسنوات قادمة.
في ظل هذه السياسة يتضح لنا جانب أساسي من جوانب الجمهورية الجديدة بكونها
جمهورية القروض المستدامة لا التنمية المستدامة، ويؤكد على ذلك ويوضحه مجموعة أخرى
من المؤشرات؛ المؤشر الأول يتعلق ببيع أصول مصر الأساسية، حتى وصل الأمر مؤخراً
إلى تداول الحديث حول بيع بعض أصول تتعلق بقناة السويس، التي تعد بشكل أساسي ركناً
من أركان التصور المصري للأمن القومي.
أما المؤشر الثاني فيتعلق بجبايات مستمرة من الشعب في ظل غلاء أسعار طاحن،
فيؤدي كل ذلك إلى تغوّل على حياة المواطن ومعاشه، والتفنن في أنواع الجبايات، وليس
للمواطن في هذا الحال حول ولا قوة، إلا أن يكون مطحوناً بين كل هذه الأمور التي
تضغط على حياته وضروراته.
ويأتي المؤشر الثالث ليتعلق بتلك المشروعات الهندسية من كباري وطرق وخلافه،
والتي احتكرتها المنظومة العسكرية وأدى بها ذلك إلى المبالغة في تلك الإنشاءات
التي جاءت على ذاكرة مصر القديمة، وهدم ذاكرتها الحضارية ونقض مبانيها حتى مقابرها،
فضلاً عن إنشاء مثل تلك الكباري من دون تحديد أهدافها أو نفعها، وهو أمر صار هدفاً
لتلك المنظومة فيما يمكن تسميته فتح كل مسالك السبوبة لفساد جديد يترتب عليها، ضمن
منظومة الاستمالة لفئات بعينها تشكل صلب المصالح لتلك العصابة وتحالف المصالح
الدنيء.
ليست كل تنمية أو نمو يؤثر في حياة المواطن والمواطنين، ولكن نموهم الذي لا يضع المواطن وضروراته نصب عينيه يبدو في مظاهر شكلية من دون أي عوائد اجتماعية، وهو اختلال كبير ليس فقط في البنية الاقتصادية، ولكن أثره وخيم على البنية الاجتماعية وتآكل الطبقة الوسطى، وزيادة مساحات الفقر والإفقار
أما المؤشر الرابع الذي لا يجب أن نغفله إلى جانب تتبع الدين الخارجي نظرا
للمطالبات الخارجية بالقروض وفوائدها، فهو ملاحظة الدين الداخلي الذي تضاعف مرات
ومرات حتى وصل إلى 4.7 تريليون جنيه في حزيران/ يونيو 2020. ونلاحظ هنا غياب أي إحصاءات
حديثة لهذا الدَين ولا يوجد تحديث له، وهو أمر يدين كل هؤلاء الذين يسيّرون
المنظومة الاقتصادية التي تتسم ليس فقط بعدم العدالة الاجتماعية وازدياد نسب الفقر
والتضخم والبطالة، ومضاعفة الأسعار يوما بعد يوم، ولكنها كذلك تتسم بزيادة مؤشر
الفساد وتدهور الخدمات العامة، فضلا عن أن تلك الديون وخدمتها صارت تلتهم الموازنة
العامة، وهو ما يعبر عن انسداد أفق المستقبل في خطط تنموية تنهض بحياة المواطن
المعيشية. فليست كل تنمية أو نمو يؤثر في
حياة المواطن والمواطنين، ولكن نموهم الذي لا يضع المواطن وضروراته نصب عينيه يبدو
في مظاهر شكلية من دون أي عوائد اجتماعية، وهو اختلال كبير ليس فقط في البنية
الاقتصادية، ولكن أثره وخيم على البنية الاجتماعية وتآكل الطبقة الوسطى، وزيادة
مساحات الفقر والإفقار.
هذه الصورة القاتمة التي تمثلها حلقة القروض المستدامة المفرغة ومستوى
الدين العام الذي وصل بالأزمة إلى حدود الخطر، إنما يشكل تهديداً -كما أشرنا من
قبل- إلى كل جوانب الحياة المعيشية للوطن والمواطنين، ورغم ما يسمى بالمشروعات
الزائفة فإنها في حقيقة الأمر أضافت أبعاداً جديدة من ديون متراكمة حان الآن وقت
استحقاقها أو استحقاق فوائدها، وهو أمر صار يتحدث عنه ليس فقط المتخصصون، بل يشير
إليه رجل الشارع العادي فيما يشهده من مؤشرات المعيشة الضنك، وهو أمر بحق يشير إلى
سكة الندامة في جمهورية القروض المستدامة.