ما تعيشه
روسيا بوتين اليوم في ورطة أوكرانيا، بنظر
كثير من المراقبين والمحللين والخبراء، يشبه حالة روسيا التي عاشتها عامي 1915 و1917
حين تعرضت لهزيمة ساحقة أمام القوات اليابانية والألمانية، وهو ما مهّد لثورتها
التي أطاحت بالملكية، وبالسلالة الحاكمة. اليوم
تعيش روسيا نفس الأجواء، أجواء
هزيمة عسكرية مدويّة أمام الجيش الأوكراني، بدعم غربي ضخم وكبير، وهو ما بدأت
مفاعيله الروسية الداخلية تتصاعد، وتتفاعل من خلال القوى المتناقضة والمتعارضة
الفاعلة على المسرح السياسي والعسكري الروسي، ممثلة بقوى وزارة الدفاع والأركان، ثم
قوى مليشيات مرتزقة فاغنر بزعامة يفجيني بريغوجين، طباخ بوتين، الذي
تتنامى قوته
لتتعدّى الحدود الروسية ولتصل إلى سوريا وأوكرانيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية،
وهناك القوة العسكرية الثالثة التي تنتظر دورها وهي قوة رمضان قديروف في الشيشان.
تفجير الجسر الروسي الأخير كان علامة إنذار خطيرة لكل الخبراء
والمحللين العسكريين الذين رأوا فيه عملاً روسياً شبه انتحاري، وشبه ميئوس منه،
بحيث أن روسيا لم تتحوّل إلى حالة الدفاع عن النفس فقط، وإنما إلى حالة اليأس
والإحباط من إمكانية الانتصار، بل وحتى الصمود، ولذا فهي تحرق الجسور خشية من أن
يداهمها العدو الأوكراني في عقر دارها، وقد أتى ذلك بعد سلسلة عمليات عسكرية
أوكرانية في
العمق الروسي، وتعززت بقوات الجيش الحر الروسي التي تعمقت بدورها في
الأراضي الروسية مما تسبب في حرج كبير لبوتين، وهو الذي يخشى اليوم من حصول
الأوكران على دعم بصواريخ استراتيجية تطال العمق الروسي، وهو ما تفاوض إدارة بايدن
الصين عليه اليوم من أجل دعمها لإطلاق عملية مفاوضات مع روسيا، مقابل تعهد واشنطن
بعدم إرسال أسلحة هجومية تضرب العمق الروسي، فواشنطن في المحصلة لا مصلحة لها
بهزيمة روسية مدوية، سينعكس عنها حصول فراغات إقليمية ودولية لا قِبَل لها بملئها.
الهزائم العسكرية الروسية المتكررة، وحجم الخسائر البشرية التي تعرّضت لها القوات الروسية في أوكرانيا، وتحديداً نزيف النخب المقاتلة، والنخب القيادية التي قُتلت في أرض المعركة، يشي بأن الخسائر الروسية مدمرة لأجيال، ولم تعد خسارة آنية موضعية
الهزائم العسكرية الروسية المتكررة،
وحجم الخسائر
البشرية التي تعرّضت لها القوات الروسية في أوكرانيا، وتحديداً نزيف النخب
المقاتلة، والنخب القيادية التي قُتلت في أرض المعركة، يشي بأن
الخسائر الروسية
مدمرة لأجيال، ولم تعد خسارة آنية موضعية. فقد انعكس الوضع العسكري الروسي
المتراجع، على صادرات العسكرة الروسية للخارج، إذ تراجعت بشكل ملحوظ خلال السنوات
الماضية، إن كان لحاجة الحرب الروسية في أوكرانيا إليها، فباتت تستورد بعض القذائف
والصواريخ من كوريا الشمالية، والدرون من إيران، أو أن تراجع الصادرات العسكرية
يعود إلى ضعف الثقة بالسلاح الروسي بعد تفوّق سلاح الخصم الغربي عليه في الحرب في
أوكرانيا، مما سيلقي بتداعيات خطيرة وبعيدة الأثر على كامل الصادرات العسكرية
الروسية للخارج.
فالمعروف أن أحد أهم أذرع السياسة الخارجية الروسية يتمثل
في الصادرات العسكرية؛ إن كان من حيث النفوذ المالي والسياسي، أو من حيث دعم القوى
والدول الحليفة لها، فكان من تداعيات ذلك المباشرة والآنية؛ التحرك الهندي نحو
الشركات العسكرية الأمريكية لمشاركتها في الانتاج الحربي، بعيداً عن الشراكات مع
الشركات الروسية، مما يعني تقليص اعتماد الهند على السلاح الروسي والشراكة الروسية
في التصنيع.
حالة التمرد المجتمعي الروسي التي نعيشها اليوم، ليست
جديدة، فقد رأينا كيف انعكس الانسحاب السوفييتي من أفغانستان على 15 جمهورية سوفييتية،
حين استقلت عن موسكو، وبالتالي فإن التجربة لا تزال غضة وحديثة، وربما تتكرر مع
هزيمة مدوية أخرى كحال الهزيمة اليوم، لا سيما وأن روسيا على ما يبدو ثبت تاريخياً
أنها تنفجر داخلياً نتيجة حروب خارجية، بينما الغالب في عالم الدول، أن الحرب
الخارجية والأعداء الأجانب يوفرون جبهة داخلية قوية ومتماسكة، ولكن لعل هذا يعكس
مدى هشاشة البنية الهوياتية الداخلية لروسيا ومن قبلها الاتحاد السوفييتي.
هذه الانهيارات المحتملة في حال حصولها ستُلقي
بتداعيات على الأمن الاقليمي والدولي، لا سيما في المناطق التي تتواجد فيه روسيا
بقوة كحال سوريا، ومناطق وسط آسيا والقوقاز، ولذا فإن هذا التراجع سيمنح فرصة
ذهبية ربما لكل القوى المناوئة لروسيا في الدول المذكورة باستثمار واستغلال الواقع
الروسي الانهزامي، تماماً كما فعلت جمهوريات وسط آسيا، واستقلت عن موسكو بعد
الانسحاب السوفييتي من أفغانستان.
لعل هذه الصورة هي التي تُرعب الغرب اليوم، وهي صورة الفراغ الذي سيُخلفه الرحيل الروسي، ويقف الغرب عاجزاً عن سدّه وملئه
لعل هذه الصورة هي التي تُرعب الغرب اليوم، وهي صورة
الفراغ الذي سيُخلفه الرحيل الروسي، ويقف الغرب عاجزاً عن سدّه وملئه، فالخزان
البشري القتالي للمسلمين في تلك المنطقة يثير الرعب والخشية وسط الغربيين، فقد
نجحت روسيا لقرون في كبح جماح هذا المارد الذي ينتظر لحظة الانفكاك من وثاقه.
وخروج سوريا عن النفوذ الروسي يعني استعادة الثوار
للمبادرة، وهو الأمر الذي يُقلق الغرب من أن يكون لذلك تداعياته على المنطقة
برمتها، في ظل تمدد تركيا نحو الساحة الشامية ومنها إلى العالم العربي. ولعل هذا
ما يفسر تحرك أوساط غربية باتجاه مناف طلاس والاستعداد ربما لمرحلة انفجار الأوضاع
في سوريا، كنتيجة لتفجر الأوضاع في روسيا الذي نتحدث عنه.