"لماذا لم يطرقوا الجدران؟"؛ ترى هل ردد تجار الموت العابرون للدول والجنسيات صدى هذه العبارة الصارخة التي قالها "أبو الخيزران" قبل نصف قرن في رائعة غسان كنفاني "رجال في الشمس"، وهو يقفل عائداً بشاحنته بعد إلقاء النظرة الأخيرة على جثث
اللاجئين الثلاثة الذين تركهم خلفه قرب مكب للنفايات، علهم يجدون من يضمن لهم مكانا في باطن الأرض بعد أن لفظهم ظاهرها؟ وهل انتاب أولئك التجار هاجس "أن تفسد البضاعة"، والذي انتاب ذاك السائق الذي فقد وطنه ورجولته ذات نكبة ليدمن تهريب اللاجئين، عله يعوض بالمال الذي يجمعه فداحة خسارة وطن وهوية؟
تُرى، هل خطر ببالهم أن هؤلاء المهاجرين الذين تركوهم يواجهون مصيرهم المحتوم، إنما يدفعون ثمن طرقهم جدران خزان كبير كانوا يسمونه وطنا، لكن هذه الجدران التي نخرها الفساد ما لبثت أن تهاوت على رؤوسهم، ودفعتهم للبحث عن مأوى لم تعد قادرة على توفيره لهم؟
لقد لملموا أشلاءهم وبقايا أحلامهم، وبؤس واقعهم، ويمموا وجوههم صوب الغرب، علهم يجدون بين جدرانه الأمان الذي افتقدوه في وطن أصبح عاريا من الجدران. اعتلوا ظهور قوارب آمالهم المتهالكة، مصدقين وعد الجنة المزعومة، علَها تكون أرحم بهم من لهيب صحراء مترامية خلفوها وراءهم.
كانوا يعلمون جيداً أنه دون هذه الجنة المسكونة بهاجس التغيير الديموغرافي والنقاء العرقي و"
الإسلاموفوبيا"، عوائق كثيرة وبوابات محكمة الإغلاق، ورحلة على
قوارب الموت الذي يتربص بهم خلف كل زاوية، وبين كل مد وجزر. لكنهم قرروا خوض هذه التجربة التي هي للانتحار أقرب منها للمغامرة؛ أليست حياتهم هي الانتحار البطيء بعينه؟
لم يطرقوا الجدران لأن كابوس تهاوي جدران الوطن فوق رؤوسهم ما يزال جاثما على صدورهم. لذلك اختاروا الاستسلام لمصيرهم المحتوم، علهم يجدون في باطن أرض أوروبا أماناً فقدوه بين أطلال مدنهم المنكوبة.
لقد آثروا الموت من دون جلبة حتى لا يخدشوا مسامع عالم عطل حواسه كافة عن مأساتهم. أرأيتم لماذا لم يطرقوا الجدران.
(
التاج الإخباري)