الكتاب: الملكات العربيات قبل الإسلام،
دراسة في التاريخ السياسي
الكاتبة: هند محمد التركي
الناشر: مؤسسة عبد الرحمن السديري الخيرية،
ط1 الرياض 2008
عدد الصفحات: 222 صفحة
1
حظيت
المرأة العربية ما قبل ظهور الإسلام،
بدور بارز في الحياة الدينية، فضلا عن دورها الطبيعي في الأسرة والمجتمع، فتولّت
الكهانة وأشرفت على المعابد. وفي الآن نفسه، كان لها دور سياسي وتأثير في تدبير
شؤون الحكم معتبران؛ فقد شاركت بفعالية في القيادة السياسية لبعض الدول والممالك، وكان دورها يتحقّق بطريقة غير مباشرة لقربها من دائرة الحكم، كأن تكون أمّا للحاكم
أو زوجة له ذات منزلة، أو بطريقة مباشرة. فتولت السلطة، شأن ملكة سبأ وملكات شمال غربي
الجزيرة العربية المذكورات في النصوص الآشورية، وملكة تدمر التي كان لها علاقات
مع الإمبراطورية الرومانية. ولا نعتقد أبدا، بناء على الشذرات المبثوثة في
المصنّفات المختلفة، أنّ لهذا الدور صدى يوازيه في كتب التاريخ؛ ولعلّ هذا الأمر
ما يمنح أثر الكاتبة هند محمد التركي "الملكات العربيات قبل الإسلام، دراسة
في التاريخ السياسي" قيمته المضاعفة.
يركز هذا الأثر على تدارك هذا الضيم الذي
لحق بالمرأة العربية القديمة، وعلى توضيح دورها في المجال السياسي ومدى مشاركتها
في الحكم، و"تصحيح بعض المفاهيم والاستنتاجات الخاطئة التي وقع فيها ـ عمدا أو سهوا ـ بعض الباحثين"، على عبارتها: "من الذين درجوا على إغفال كون
العرب سباقين في مفاهيمهم الحضارية وخاصة تجاه المرأة". ويبرز "أن
للحضارة العربية القديمة - من خلال تقديرها للمرأة- دورا في بناء الهرم الحضاري
الإنساني القديم".
2
غالبا ما كانت الدراسات التي تناولت دور
المرأة السياسي في هذه الحقبة تكتفي بالتركيز على ملكتي سبأ وتدمر، ولكنّ البحث
توسّع بالنّظر إلى اكتشافات أثرية جديدة مثل ما عثر عليه من العملات القديمة
والرسوم والأفاريز الصخرية، أو ما تعلّق بالملكات العربيات في النقوش الآشورية، أو
النقوش السبئية أو النبطية أو التدمرية، أو ما ورد في المصادر الرومانية كتلك التي
تتعلّق بملكة تدمر، من خلال الرسائل المتبادلة بينها وبين الإمبراطور الروماني
(أورليان). ومن المصادر الرومانية المهمة تذكر الباحثة أثر Historian Augusta "، وهو مجموعة
سير أباطرة الرومان في القرنين الثاني والثالث الميلاديين. وقد كتبها مؤلفون
مختلفون، وفيه رسائل متبادلة بين الإمبراطور (أورليان) والملكة (زنوبيا) ملكة
تدمر. فضلا عن ذلك، تحاول الباحثة قراءة بعض النصوص الآشورية التي انفردت بذكر
الملكات، ومن ثم سعت إلى تحديد مناطق حكمهن، وتوضيح العلاقة السياسية التي ربطت
بينهن وبين ملوك آشور.
3
مما تعتقد الباحثة أنها تضيفه إلى مصنّفات
التاريخ، الدور الاجتماعي والديني للمرأة العربية ما قبل ظهور الإسلام؛ فمن البديهي
أن يكون لها دور فاعل في بناء الأسرة، وأن تكفل من خلاله ومشاركتها في الحياة
العامة لمجتمعها، ولكنّها استطاعت أن توسّع من هذا الدور بما أكسبها حقوقا ومنحها
أدوارا أهم؛ ففي بعض النقوش ما يفيد انتزاعها لحقّها في الملكية والإرث وخدمة
المعابد، والإسهام في إثراء مقتنياتها؛ فالملكتان تعلخونو، وحبوبة، جمعتا بين
السلطتين الدينية والسياسية؛ فقد كانتا كاهنتين للمعبود عشرا. أما أبكاللاتو، فقد
كانت كاهنة ملكة بلاد العرب، وفق بعض المصادر، ونصت أخرى على أنها كانت كاهنة لربة
عربية".
وقد حكمت مدينة أدوماتو حكما يجمع بين
السلطتين الدينية والدنيوية، فأطلق عليها (تعلخونو الكاهنة). ويبرهن (بورجر) على أن
الملكة العربية اسمها (تعلخونو)، وإن اسم أبكاللاتو الذي وجد في النص لم يكن اسمها،
إنما كناية عن عملها باعتبارها كاهنة وسادنة". وجاء في بعض النصوص التي
اعتمدتها الباحثة "وتعلوخونو، ملكة العرب وسط الصحراء.. أخذت.. () جمل منها
هي وخز إيلو أطاح بهما (أي) جلالته هجرا خيامهما وهربا لينجوا بحياتهما إلى
أدوماتو التي تقع في وسط الصحراء، مدينة العطش التي لا يوجد فيها طعام أو شراب".
ولم تكن الكهانة في بلاد العرب تسند للملكة
فقط، فقد كانت هناك كاهنة دينية تنوب عن الملكة وتشرف على أمور المعبد والمراسم
الدينية. وعامة، كان للمرأة الحق في اعتلاء هذا المنصب الديني الرفيع في المجتمع
اللحياني. ولحيان مملكة عربية قديمة، تأسست في الحجر غرب المملكة العربية السعودية
اليوم، امتد سلطانها لقرون قبل الميلاد، واختفت بعد استقلال الأنباط في الفترة ما
بين (107 م - 150 م). ونظرا لما كان للمعبد من أهمية وتأثير، فقد اهتمت نساء
الطبقة العليا والغنية به؛ فوهبن فتاة أو فتاتين من جواريهن لخدمة المعبد، والتنسك
في خدمة معبوداتهن. تقول الباحثة: "وكانت المرأة تلجأ في جميع أمورها إلى
المعبد، طلبا للعون والمشورة منه، فتقدم التماثيل والقرابين في سبيل تحقيق
مطالبها".
3
تدرس الباحثة مكانة المرأة ودورها في
مجتمعها في الشرق الأدنى القديم، في مصر وفي بلاد الرافدين وفي بلاد الشام وفي بلاد الأناضول بآسيا الصغرى وفي بلاد
فارس؛ لتبحث في ضوئها في وضعية المرأة في بلاد العرب. وتنتهي إلى أنّ دور المرأة
العربية لم يقتصر على الكهانة والتملك والإرث، فقد تحدثت المصادر عن وصولها إلى
سدّة الحكم، ولعل ملكتي سبأ وتدمر تعتبران من أشهر الملكات العربيات اللاتي ذكرن
في التاريخ القديم. ولكن ذلك لا يجب أن يحجب وجود ملكات وزوجات للملوك أسهمن في
قيادة الدولة، وتدبير الأمور السياسية، فالملكة
(عادية) زوجة الملك ( ينع) كان لها دور قيادي، والأمر نفسه ينطبق على الملكة شقيلة (النعمان)، والخنساء. وشاركن كذلك في عقد الأحلاف، ومن هؤلاء عاتكة بنت مرة بن
هلال التي شاركت في حلف الأحابيش.
لا يزيد التأريخ في ظاهره عن الإخبار، كذلك الأمر في أثرنا؛ فقد جاء احتجاجا على وضعية القهر الاجتماعي الذي تعيشه المرأة اليوم في بعض البلدان العربية، ودعوة ضمنية لأن تستعيد حقها في دور كامل ومشاركة فعّالة في الحياة السياسية، وردا علميا على القائلين بقصورها وعجزها بعيدا عن الانفعالات والتشنج.
ومن ملكات شمال غربي الجزيرة العربية، تذكر
الباحثة الملكة زبيبة (745 قم ـ 727 ق م) ويشار إليها في النقوش بملكة بلاد العرب، والملكة شمسي (القرن الثامن ق م)؛ فقد اشتركت في الثورة ضد الحكام الآشوريين، وذكرت
من خلال توثيق ملكين آشوريين، وأشير إليها بملكة بلاد العرب وهروبها إلى الصحراء
بلاد العطش. ومن الملكات تذكر الباحثة يطيعة (القرنين الثامن والسابع ق م)، التي
أرسلت جيشا بقيادة أخيها إلى ملكة بلاد العرب، ويافا التي حكمت منطقة اسمها ذخراني
وباسلو المعاصرة ليافا، وأشير إليها بملكة إيخيلو.
وإلى ذلك، تذكر الملكة تبوأة التي أخذت أسيرة
وتربت في قصر سنحاريب، ثم نصبت ملكة وكاهنة على أدوماتو. والملكة عادية التي كان لها
دور قيادي وسياسي، وتحالفت مع زعيم القيداريين لمواجهة دولة آشور. والملكة زنوبيا
وهي أشهرهن، فقد حكمت تدمر بين بلاد الشام وبلاد الرافدين على طريق القوافل. وقد
كانت وصية على ابنها بعد مقتل والده. وجمعت بين الجمال والصرامة والقوة واتخذت
لنفسها اسم ملكة الشرق.
4
اقتصر ذكر الملكات العربيات في النقوش
التدمرية والمصادر الرومانية على واحدة فحسب، هي (زنوبيا) "ملكة الشرق
العظيمة"، ولكن مثّل سك النقود أحد العناصر التي سدّت شيئا من الفجوات
التاريخية ووثّقت لنا شيئا من سيرهن. فقد خلفت مملكة الأنباط التي قامت في شمال
الجزيرة العربية، في المناطق التي استوطنتها أو أدركتها تجارتها نقوشا وآثارا
كثيرة. ولكن الإشارة إلى ملكاتها لم ترد إلا على عملاتها، فتذكر الباحثة أسماء
الملكات النبطيات حسب تتابع الملوك الزمني. من هؤلاء: الملكة خلدو، وهي الزوجة
الأولى للملك النبطي (حارثة الرابع)، وقد نقشت صورتها، وسك اسمها خلال السنوات
الأولى من حكمه. والملكة شقيلة، أم الملك رب إلى الثاني (70-106م)، وهي أم الملك (رب
إلى الثاني)، أشرفت على أمور الدولة السياسية؛ بصفتها وصية على ابنها، وفي عهده
نقش اسمها على العملة. والملكة جميلة زوجته، فقد نقشت صورتها مع
صورة زوجها على
الوجه، وذكر اسمها مع اسمه على القفا.
5
رغم كثرة التفاصيل وغياب الرابط الدقيق
بينها، ينتهي قارئ هذا الكتاب إلى جملة من الاستنتاجات. منها أن المرأة العربية
القديمة، اضطلعت بدورها الأسري، وكثيرا ما تسربت منه إلى عالم السياسة، فكان لها
دور بارز، فتجلت قدرتها في تطبيق نظام محكم يتفاعل مع مجريات الأحداث السياسية
المعاصرة لفترة حكمها. ولعل أوثق النماذج التي تناولها البحث، مشاركة الملكة بيبي
في دفع الأتاوة المقررة مع الملوك المجاورين لها، حفاظا على مصالح قومها السياسية
والتجارية. أما الملكة يطيعة، فقد أسهمت، لما كانت في موقف قوة، في مساعدة الثائر
(مردوخ بالادن) ضد الدولة الآشورية عندما أرسلت جيشا بقيادة أخيها بستانو.
وتقدّر الباحثة أنّ حكم الملكات العربيات
قبل الإسلام، لم يكن منصبا فقط على إحكام القبضة السياسية، وإنما تعدى اهتمامهن
إلى النواحي الاقتصادية والاهتمام بها؛ كونها دعامة أساسية في استقرار المجتمع؛ فملكة سباً حقّقت ثراء معتبرا لمملكتها، واتضح ذلك من خلال الهدية المرسلة إلى
النبي (سليمان). ونوعية الأتاوات المقدمة شمال الجزيرة العربية إلى الملوك
الآشوريين تدل على مدى الازدهار الاقتصادي الذي تمتعت به ممالك ملكات شمالي
الجزيرة العربية. وعامة، كانت العلاقات السياسية بين الملكات العربيات قبل الإسلام
والملوك المعاصرين لحكمهن تقوم على مبدأ الحفاظ على مكتسبات البلاد، فكل ملكة
كانت تحاول أن تجعل علاقاتها بجيرانها متناسبة مع مصالح شعبها ومملكتها. وتجد
الباحثة في ذلك أمارة على وصول المرأة إلى درجة من الوعي السياسي، وعلى عدم بقائها
بمعزل عن الأحداث السياسية الخارجية، ولكنّ ذلك ما كان ليتحقّق إن لم ينظر المجتمع
العربي القديم إلى المرأة نظرة تقدمية، ولم يؤمن بكونها عنصرا اجتماعيا فاعلا في
قضايا مجتمعها.
ويدفع هذا الأثر إلى أطروحة مدارها على أنّ الملكة العربية قبل
الإسلام تمتعت بقيادة حربية وحنكة سياسية؛ فاستطاعت أن تدافع عن مملكتها، وأن تصل
إلى الاستقلالية من أي تبعية أجنبية، فالملكة (زنوبيا) استطاعت أن تواجه جيوش
الإمبراطورية الرومانية وأن تخلص تدمر من التبعية الرومانية؛ محاولة الاستقلال
بمملكتها، وتوسيع رقعة أراضيها، ثم وسّعت دائرة سلطتها خارج حدود تدمر. أما الملكة
(شمسي)، واجهت الدولة الآشورية ولم ترض بالرضوخ لها، فكانت كلما سنحت لها
الفرصة، تتمرد وتعلن استقلالها.
6
لا يزيد التأريخ في ظاهره عن الإخبار، كذلك
الأمر في أثرنا؛ فقد جاء احتجاجا على وضعية القهر الاجتماعي الذي تعيشه المرأة
اليوم في بعض البلدان العربية، ودعوة ضمنية لأن تستعيد حقها في دور كامل ومشاركة
فعّالة في الحياة السياسية، وردا علميا على القائلين بقصورها وعجزها بعيدا عن
الانفعالات والتشنج.
ولعلّ هذا الأثر أن ينخرط في سياق كامل من بحث النساء في صورة
المرأة العربية القديمة. من ذلك نذكر "حفريات في أدب النساء وأخبارهن"
و"شعر النساء بالأندلس" للباحثة هاجر الحراثي، ومن خلالهما ترفض فكرة
مركزيّة الرجل دونية المرأة في الثقافة العربيّة، و"دور المرأة في الغرب
الإسلامي من القرن الخامس هجري إلى منتصف القرن السابع هجري" لفوزية كراز، التي آثرت أن تؤرّخ للغرب الإسلامي، وأن تدرس وجهه الحضاري والاجتماعي عبر منزلة المرأة
فيه، والأدوار المختلفة التي اضطلعت بها في القرون الوسطى الإسلامية، فتعرض نماذج
نسوية مختلفة من صاحبات الأدوار الفاعلة في المجتمع.